تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٧٩
المضمرات وضع للمفرد المذكر الغائب، وهو كلي في الوضع كسائر المضمرات، جرى في النسبة المخصوصة حالة الاستعمال، فما من مفرد مذكر غائب إلا ويصح أن يطلق عليه هو، ولكن إذا أسند لهذا الاسم شيء تعين. ومشهور لغات العرب تخفيف الواو مفتوحة، وشددتها همدان، وسكنتها أسد وقيس، وحذف الواو مختص بالشعر. ولهؤلاء المنسوبين إلى علم الحقائق وإلى التصوف كلام غريب بالنسبة لمعقولنا، رأيت أن أذكره هنا ليقع الذكر فيه.
قالوا: أسماء الله تعالى على ثلاثة أقسام: مظهرات، ومضمرات، ومستترات. فالمظهرات: أسماء ذات، وأسماء صفات، وهذه كلها مشتقة، وأسماء الذات مشتقة وهي كثيرة، وغير المشتق واحد وهو الله. وقد قيل: إنه مشتق، والذي ينبغي اعتقاده أنه غير مشتق، بل اسم مرتجل دال على الذات. وأما المضمرات فأربعة: أنا في مثل: * (الله لا إلاه إلا أنا) *، وأنت في مثل: * (لا إلاه إلا أنت سبحانك) *، وهو في مثل: * (هو الذى خلق لكم) *، ونحن في مثل: * (نحن نقص عليك) *. قالوا: فإذا تقرر هذا فالله أعظم أسمائه المظهرات الدالة على الذات، ولفظة هو من أعظم أسمائه المظهرات والمضمرات للدلالة على ذاته، لأن أسماءه المشتقة كلها لفظها متضمن جواز الاشتراك لاجتماعهما في الوصف الخاص، ولا يمنع أن يكون أحد الوصفين حقيقة والآخر مجازا من الاشتراك، وهو اسم من أسماء الله تعالى ينبئ عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة من حيث هو هو. فلفظة هو توصلك إلى الحق وتقطعك عما سواه، فإنك لا بد أن يشرك مع النظر في معرفة ما يدل عليه الاسم المشتق النظر في معرفة المعنى الذي يشتق منه، وهذا الاسم لأجل دلالته على الذات ينقطع معه النظر إلى ما سواه، اختاره الجلة من المقربين مدارا لذكرهم ومنارا لكل أمرهم فقالوا: يا هو، لأن لفظة هو إشارة بعين المشار إليه بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد، والمقربون لا يخطر في عقولهم وأرواحهم موجود آخر سوى الذي دلت عليه إشارته، وهو اسم مركب من حرفين وهما: الهاء والواو، والهاء أصل والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية، والجمع في هما وهم، والأصل حرف واحد يدل على الواحد الفرد. انتهى ما نقل عن بعض من عاصرناه في هو بالنسبة إلى الله تعالى مقررا لما ذكروه ومعتقدا لما حبروه. ولهم في لفظة أنا وأنت وهو كلام غريب جدا بعيد عما تكلم عليها به أهل اللغة والعربية، وحديث هؤلاء المنتمين إلى هذه العلوم لم يفتح لي فيه ببارقة، ولا ألممت فيه إلى الآن بغادية ولا طارقة، نسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا بأنوار الهداية، وأن يجنبنا مسالك الغواية، وأن يلهمنا إلى طريق الصواب، وأن يرزقنا اتباع الأمرين النيرين: السنة والكتاب.
ولكم: متعلق بخلق، واللام فيه، قيل: للسبب، أي لأجلكم ولانتفاعكم، وقدر بعضهم لاعتباركم. وقيل: للتمليك والإباحة، فيكون التمليك خاصا، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به وتدعو الضرورة إليه. وقيل: للاختصاص، وهو أعم من التمليك، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولا من أجله لأنه بما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي. فالديني: النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرة الصانع وحكمته ومن التذكير بالآخرة والجزاء، وأما الدنيوي: فظاهر، وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهية وغير ذلك. وقد استدل بقوله: * (خلق لكم) *، من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة، فلكل أحد أن ينتفع بها، وإذا احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة، لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه. وقد ذهب قوم إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر، فلا يقدم على شيء إلا بإذن. وذهب قوم إلى أن الوقف لنا تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة، ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف. وحكى أبو بكر بن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: لم يخل العقل قط من السمع، فلا نازلة إلا وفيها سمع، أو لها تعلق به أثر لها حال تستصحب، وإذا جعلنا اللام للسبب، فليس المعنى أن الله فعل شيئا لسبب، لكنه لما فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب أطلق عليه لفظ السبب واندرج تحت قوله: * (ما فى الارض جميعا) *، جميع ما كانت الأرض مستقرا له من الحيوان والنبات والمعدن والجبال، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور المستنبطة. واستدل بعضهم بذلك على تحريم
(٢٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 274 275 276 277 278 279 280 281 282 283 284 ... » »»