ما، أي وصله، والتقدير: ويقطعون وصل ما أمر الله به. وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون في موضع نصب مفعولا من أجله، وقدره المهدوي كراهية أن يوصل، فيكون الحامل على القطع لما أمر الله كراهية أن يوصل. وحكى أبو البقاء وجه المفعول من أجله وقدره لئلا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أن يوصل في موضع رفع، أي هو أن يوصل. وهذه الأعاريب كلها ضعيفة، ولولا شهرة قائلها لضربت عن ذكرها صفحا. والأول الذي اخترناه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الله وسواه من الأعاريب، بعيد عن فصيح الكلام له أفصح الكلام وهو كلام الله.
* (ويفسدون فى الارض) *، فيه أربعة أقوال: أحدها: استدعاؤهم إلى الكفر، والترغيب فيه، وحمل الناس عليه. الثاني: إخافتهم السبيل، وقطعهم الطريق على من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم) وغيرهم. الثالث: نقض العهد. الرابع: كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها. وقال ابن عطية: يعبدون غير الله، ويجوزون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا قريب من القول الرابع. وقد تقدم ما معنى في الأرض، والتنبيه على ذكر الأرض، عند الكلام على قوله: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض) *، فأغنى عن إعادته هنا. وقد تضمنت هذه الآية الكبيرة نوعا من البديع يسميه أرباب البيان: بالطباق. وقد تقدم شيء منه، وهو أن تأتي بالشيء وضده، ووقع هنا في قوله تعالى: * (بعوضة فما فوقها) *، فإنهما دليلان على الحقير والكبير، وفي قوله: * (فأما الذين ءامنوا) *، * (وأما الذين كفروا) *، وفي قوله تعالى: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا * وفى * قوله * ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) *، وفي قوله: * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل. وجاء في هذه الثلاثة الأخيرة مناسبة الطباق، وهو أن كل أول منها كائن بعد مقابله، فالضلال بعد الهداية لقوله: كل مولود يولد على الفطرة، ولدخول أولاد الذين كفروا الجنة إذا ماتوا قبل البلوغ، والنقض بعد التوثقة، والقطع بعد الوصل. فهذه ثلاثة تناسبت في الطباق. وفي وصل الذين بالمضارع وعطف المضارعين عليه دليل على تجدد النقض والقطع والإفساد، وإشعار أيضا بالديمومة، وهو أبلغ في الذم، وبناء يوصل للمفعول هو أبلغ من بنائه للفاعل، لأنه يشمل ما أمر الله بأن يصلوه أو يصله غيرهم.
وترتيب هذه الصلات في غاية من الحسن، لأنه قد بدأ أولا بنقض العهد، وهو أخص هذه الثلاث، ثم ثنى بقطع ما أمر الله بوصله، وهو أعم من نقض العهد وغيره، ثم أتى ثالثا بالإفساد الذي هو أعم من القطع، وكلها ثمرات الفسق، وأتى باسم الفاعل صلة للألف واللام ليدل على ثبوتهم في هذه الصفة، فيكون وصف الفسق لهم ثابتا، وتكون النتائج عنه متجددة متكررة، فيكون الذم لهم أبلغ لجمعهم بين ثبوت الأصل وتجدد فروعه ونتائجه، ولما ذكر أوصاف الفاسقين أشار إليهم بقوله: * (أولئك) *، أي: أولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة من النقض والقطع والإفساد.
* (هم الخاسرون) *: وفسر الخاسرون بالناقصين حظوظهم وشرفهم، وبالهالكين، وسبب خسرانهم استبدالهم النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والإفساد بالإصلاح، وعقابها بالثواب، وقيل: الخاسرون المغبونون بفوت المثوبة ولزوم العقوبة وقيل: خسروا نعيم الآخرة، وقيل: خسروا حسناتهم التي عملوها، أحبطوها بكفرهم. والآية في اليهود، ولهم أعمال في شريعتهم وفي المنافقين، وهم يعملون في الظاهر عمل المخلصين. قال القفال: الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملا يجزى