التسهيل لعلوم التنزيل - الغرناطي الكلبي - ج ٤ - الصفحة ٢٢٧
أنهم أعلى من سائر الناس فلذلك جاء به بعد الرب وأما الإله فهو أعلى من الملك ولذلك لا يدعى الملوك أنهم آلهة فإنما الإله واحد لا شريك له ولا نظير فلذلك ختم به فإن قيل لما أظهر المضاف إليه وهو الناس في المرة الثانية والثالثة فهلا أضمره في المرتين لتقديم ذكره في قوله برب الناس أو هلا اكتفى بإظهاره في المرة الثانية فالجواب أنه لما كان عطف بيان حسن فيه البيان وهو الإظهار دون الإضمار وقصد أيضا الاعتناء بالمكرر ذكره كقول الشاعر (لا أرى لموت يسبق الموت شيء * يغص الموت ذا الغني والفقير) * (الوسواس) * هو مشتق من الوسوسة وهي الكلام الخفي فيحتمل أن يكون الوسواس بمعنى الموسوس فكأنه اسم فاعل وهذا يظهر في قول ابن عطية والوسواس من أسماء الشيطان ويحتمل أن يكون مصدرا وصف به الموسوس على وجه المبالغة كعدل وصوم أو على حذف مضاف تقديره ذي الوسواس وقال الزمخشري إنما المصدر وسواس بالكفر * (الخناس) * معناه الراجع على عقبه المستمر أحيانا وذلك متمكن في الشيطان فإنه يوسوس فإذا ذكر العبدالله وتعوذ به منه تباعد عنه ثم رجع إليه عند الغفلة عن الذكر وهو يخنس في تباعده ثم في رجوعه بعد ذلك * (الذي يوسوس في صدور الناس) * وسوسة الشيطان في صدر الإنسان بأنواع كثيرة منها إفساد الإيمان والتشكيك في العقائد فإن لم يقدر على ذلك أمره بالمعاصي فإن لم يقدر على ذلك ثبطه عن الطاعات فإن لم يقدر على ذلك أدخل عليه الرياء في الطاعات ليحبطها فإن سلم من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه واستكثار عمله ومن ذلك أنه يوقد في القلب نار الحسد والحقد والغضب حتى يقود الإنسان إلى شر الأعمال وأقبح الأحوال وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء واحدها الإكثار من ذكر الله وثانيها الإكثار من الإستعاذة بالله منه ومن أنفع شيء في ذلك قراءة هذه السورة وثالثها مخالفته والعزم على عصيانه فإن قيل لما قال في صدور الناس ولم يقل في قلوب الناس فالجواب أن ذلك إشارة إلى عدم تمكن الوسوسة وأنها غير حالة في القلب بل هي محومة في الصدر حول القلب " من الجنة والناس " هذا بيان لجنس الوسواس وإنه يكون من الجن ومن الناس ثم إن الموسوس من الإنس يحتمل أن يريد من يوسوس بخدعه وأقواله الخبيثة فإنه شيطان كما قال تعالى * (شياطين الإنس والجن) * أو يريد به نفس الإنسان إذ تأمره بالسوء فإنها أمارة بالسوء والأول أظهر وقيل من الناس معطوف على الوسواس كأنه قال أعوذ من شر الوسواس من الجنة ومن شر الناس وليس الناس على هذا ممن يوسوس والأول أظهر وأشهر فإن قيل لم ختم القرآن بالمعوذتين وما الحكمة في ذلك فالجواب من ثلاثة أوجه الأول قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير لم كان القرآن أعظم النعم على عباده والنعم مظنة الحسد فختم بما يطفئ الحسد من الإستعاذة بالله الثاني يظهر لي أن المعوذتين ختم بهما لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما أنزلت على آيات لم ير مثلهن قط كما قال في فاتحة الكتاب لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها واختتم بسورتين لم ير مثلهما ليجمع حسن الإفتتاح والاختتام ألا ترى أن الخطب والرسائل والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما ينظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها الوجه الثالث يظهر لي أيضا أنه لما أمر القارئ أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعن آخر ما يقرأ من القراءة فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء وليكون القارئ محفوظا بحفظ الله الذي استعاذ به من أول أمره إلى آخره وبالله التوفيف لا رب غيره
(٢٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 217 218 219 220 221 222 223 224 225 226 227