به، وهو معنى قوله عليه السلام: " لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " فغدوها ورواحها سبب، فالعجب العجب ممن يدعى التجريد والتوكل على التحقيق، ويقعد على ثنيات الطريق، ويدع الطريق المستقيم، والمنهج الواضح القويم. ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى " وتزودوا ".
ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد، وكانوا المتوكلين حقا. والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه، ثم يتناول الأسباب بمجرد الامر. وهذا هو الحق. سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال: إني أريد الحج على قدم التوكل. فقال: اخرج وحدك، فقال: لا، إلا مع الناس.
فقال له: أنت إذن متكل على أجربتهم. وقد أتينا على هذا في كتاب " قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكتب والشفاعة ".
الرابعة - خرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ". وخرج البزاز عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق. ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته ". أخرجه أبو بكر البرقاني مسندا عن أبي محمد عبد الغنى - من رواية عاصم - عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ ". ففي هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان. وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر: كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها. فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده، وأنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته.