تفسير ابن عربي - ابن العربي - ج ١ - الصفحة ٣٤٣
البدن التي هيأتها لها النفس في قراها وهو معنى قوله: * (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) * وقولها: * (اخرج عليهن) * استجلاؤها لنوره بالإرادة واقتضاؤها طلوعه عليها بحصول استعداد التنور لها. ولما انخرطت النفس في سلك إرادة القلب، وقلت منازعتها إياه في عزيمة السلوك، وتمرنت لمطاوعته حان وقت الرياضة بالدخول في الخلوة لتجرد القلب حينئذ عن علائقه وموانعه وتجريده عزمه بانتفاء التردد إذ بتردد العزم بانجذابه إلى جهة النفس تارة وإلى جهة الروح أخرى لا تمكن الرياضة ولا السلوك ولا تصح الخلوة لفقدان الجمعية التي هي من شرطها وهذه الرياضة ليست رياضة النفس بالتطويع فإنها لا تحتاج إلى الخلوة بل إلى ترك ارتكاب المخالفات والإقدام على كسرها وقهرها بالمقاومات من أنواع الزهد والعبادة إنما هي رياضة القلب بالتنزه عن صفاته وعلومه وكمالاته وكشوفه في سلوك طريق الفناء وطلب الشهود واللقاء وذلك بعد العصمة من استيلاء النفس عليه كما قالت: * (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) * طلب العصمة من نفسه واستزادها * (ولئن لم يفعل ما آمره) * من إيفاء حظي ليمنعن من اللذات البدنية وروح الهوى والمدركات الحسية بالخلوة والانقطاع عنها * (وليكونا من الصاغرين) * لفقدان كرامته وعزته عندنا واختذالنا عنه واعتزاله عن رياسة الأعوان والخدم في البدن. ولما حببت إليه الخلوة كما حببت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند التحنث في حراء.
* (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) * وإنما قال: * (مما يدعونني إليه) *، ودعا ربه أن يصرف عنه كيدهن بقوله: * (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) * لأن في طباعها الميل إلى الجهة السفلية وجذب القلب إليها وداعية استنزاله إليها بحيث لا يزول أبدا، وتنورها بنوره وطاعتها له أمر عارضي لا يدوم والقلب يمدها في أعمالها دائما فإنه ذو طبيعتين وذو وجهين ينزع بإحداهما إلى الروح وبالأخرى إلى النفس، ويقبل بوجه إلى هذه وبوجه إلى هذه، فلا شيء أقرب إليه من الصبوة إليها بجهالته لو لم يعصمه الله بتغليب الجهة العليا وإمداده بأنوار الملأ الأعلى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' اللهم ثبت قلبي على دينك '، قيل له: أو تقول ذلك وأنت نبي يوحى إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: ' وما يؤمنني إن مثل القلب كمثل ريشة في فلاة تقلبها الرياح كيف شاءت '. وذلك الدعاء هو صورة افتقار القلب الواجب عليه أبدا.
[تفسير سورة يوسف من آية 34 إلى آية 36
(٣٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 338 339 340 341 342 343 344 345 346 347 348 ... » »»