ولا له فيها ولا في سائر القوى الحيوانية وذلك هو إماتة الهوى، فتأكل بعد الإماتة والصلب طير قوى النفس من رأسه بأمر الحق وهو الوقوف مع الحقوق * (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) * أي: ثبت واستقر أمركما على هذا وذلك وقت وصوله وتقربه من الله وأوان ظهور مقام الولاية بالفناء في الله. وإذا تمكنت القوتان فيما عينه لهما من الأمر ثم تم أمره بالوصول إلى مقام الشهود الذاتي وانقضت خلوته، فإن طول مدة السجن هو امتداد سلوكه في الله، فإذا تم له الفناء استوى أمر القوتين لكونهما بالله حينئذ لا بنفسهما وانتهى زمان الخلوة بابتداء زمان البقاء بالوجود الحقاني، ولكن لم يتم بعد لوجود البقية المشار إليها بقوله:
* (اذكرني عند ربك) * أي: اطلب الوجود في مقام الروح بالمحبة والاستقرار فيه، فإن المحبة إذا أسكرت الروح بخمر العشق ارتقى الروح إلى مقام الوحدة والقلب إلى مقام الروح، ويسمى الروح في ذلك المقام خفيا والقلب سرا، وهو ليس بالفناء لكونهما موجودين حينئذ مغمورين بنور الحق. ومن الوقوف في هذا المقام ينشأ الطغيان والأنائية فلهذا قال: * (فأنساه الشيطان ذكر ربه) * أي: أنسى شيطان الوهم يوسف القلب ذكر الله تعالى بالفناء فيه لوجود البقية وطلبه مقام الروح وإلا ذهل عن ذكر نفسه ووجوده وللاحتجاب بهذا المقام وهذه البقية لبث * (في السجن بضع سنين) * وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ' رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل اذكرني عند ربك لما بقي في السجن بضع سنين '، أو أنسى شيطان الوهم المقهور الممنوع المحجوب عن جناب الحق رسول المحبة المقرب عند ارتفاع درجته واستيلائه واستعلاء سلطانه، والتحير في الجمال الإلهي، والسكر الغالب ذكر يوسف القلب في حضرة الشهود لأن المحب المشاهد للجمال حيران ذاهل عن الخلق كله وتفاصيل وجوده بل نفسه مستغرق في عين الجمع حتى يتم فناؤه وينقضي سكره ثم يرجع إلى الصحو فيذكر التفصيل ثم لما انتهى فناؤه بالانغماس في بحر الهوية والانطماس في الذات الأحدية وانقضى زمان السجن أحياه الله تعالى بحياته ووهب له وجودا من ذاته وصفاته فأراه صورة التبديل في صفات النفس مدة اعتزاله عنها بالخلوة والسلوك في الله بصورة أكل البقرات العجاف السمان، وفي صفات الطبيعة البدنية بصورة استيلاء السنبلات اليابسة على الخضر.
[تفسير سورة يوسف من آية 43 إلى آية 48]