" فبكرنا لمشاهدته وقعدنا إلى أن وصل هذا الخبير المتكلم فصعد المنبر وأزاح طيلسانه عن رأسه تواضعا لحرمة المكان، وقد تسطر قراء القرآن أمامه على كراسي موضوعة، فابتدروا القراءة على الترتيب، فشوفوا ما شاؤوا وأطربوا ما أرادوا وبادرت العيون بارسال الدموع ".
" فلما فرغوا من القراءة، وقد أحصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات، صدع ابن الجوزي بخطبته الزهراء، وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات، ومشى في الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب إلى أكملها. وكانت الآية (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا، ان الله لذو فضل على الناس (1)).
" فتمادى على هذا السين، وحسن أي تحسين، فكان يومه هذا أعجب من أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته، وكن بها " الستر الأشرف والجناب الأرأف (2) ".
" ثم سلك سبيله في الوعظ، كل ذلك بديهة لا روية ويصل كلامه في ذلك بالآيات التي قرأها القراء من قبل في المجلس، فأرسلت وابلها العيون، وأبدت النفوس سر شوقها المكنون، وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين وبالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول، وكثر الوله والذهول، وصارت الناس لا تملك تحصيلا ولا تميز معقولا ولا للبصر سبيلا ".
" ثم في أثناء مجلسه كان اشعارا في النسب مبرحة التشويق بديعة الترقيق، تشعل القلوب وجدا ويعود موضعها الغزلي وجدا (3)، فمن ذلك ما أنشده: