قال بعضهم: لا يعتبر، لأنه ليس عليه كثير مشقة في تركه القيام ببلده، لأنه لا أهل له فيه ولا عيال له، فكل البلاد له وطن.
وقال الآخرون: يعتبر، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، لأنه قال في الإملاء: لا يجب عليه الحج حتى يكون له نفقته ذاهبا وجائيا. فأطلق ولم يفرق، وهذا أولى بالصواب، لأن الإنسان يستوحش بفراق وطنه كما يستوحش بفراق مسكنه، ألا ترى أن البكر إذا زنا جلد وغرب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن، فإن كان له عقار يستغله أو ثياب أو أثاث ونحوها، لزمه فرض الحج وبيع العقار ورقاب الأموال وصرفها في الحج فأما المسكن والخادم.
قال الشافعي: في الأم: فإذا كان له مسكن وخادم له نفقة أهله بقدر غيبته لزمه الحج. وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن، لأنه قدمه على نفقة أهله، فكأنه قال: بعد هذا كله.
وقال أصحابه: يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويشتري مسكنا وخادما لأهله، فأما إذا كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن ربحها قدر كفايته، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا؟
قال أبو العباس بن شريح: لا يلزمه ذلك وتبقى البضاعة على ما هي عليه ولا يحج من أصلها، لأن الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته.
وقال الآخرون: بل عليه أن يحج من أصل البضاعة، وهو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور، لأنه لا خلاف أنه لو كان له عقار يكفيه غلته لزمه بيع أصل العقار في الحج، وكذلك البضاعة، وجملته أن فرض الحج يتعلق بما يتعلق به فرض زكاة الفطر، فما وجب بيعه في زكاة الفطر وجب بيعه في الحج، فهذا القول في أحد وجهي الاستطاعة، فأما الوجه الآخر: فهو أن يكون مغصوبا في بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب بحال، أو يكون فضو الخلقة ابتداء، أو يكون مريضا مزمنا شديدا لا يرجى برؤه، أو يكون شيخا كبيرا ضعيفا ولكن يكون قادرا على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه، فهذا أيضا مستطيع استطاعة ما. وهو على وجهين:
أحدهما: أن يكون قادرا على مال يستأجر عليه من يحج، فإنه يلزمه فرض الحج، وهذا قول علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) روى عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج: جهز رجلا يحج عنك. وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وعبد الله بن المبارك وأحمد بن المبارك وإسحاق.
والثاني: أن يكون قادرا على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه، فهذا أيضا يلزمه الحج عند الشافعي وابن حنبل وابن راهويه.