أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٥٤
اللفظ أنه لا تبطل شهادته ما دامت إقامة البينة على زناة ممكنة، ألا ترى أنه لو قال رجل لامرأته " أنت طالق إن كلمت فلان ثم لم تدخلي الدار " أنها إن كلمت فلانا لم تطلق حتى تترك دخول الدار إلى أن تموت فتطلق حينئذ قبل موتها بلا فصل؟ وكذلك لو قال: " أنت طالق إن كلمت فلانا ولم تدخلي الدار " كان بهذه المنزلة، وكان الكلام وترك الدخول إلى أن تموت شرطا لوقوع الطلاق، ولا فرق بين قوله: " أنت طالق إن كلمت فلانا ثم دخلت الدار " وبين قوله: " إن كلمت فلانا ثم لم تدخليها "، وإن افترقا من جهة أن شرط اليمين في أحدهما وجود الدخول وفي الآخر نفيه، ولما كان ذلك كذلك وكان قوله تعالى:
(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) مقتضيا لشرطين في بطلان شهادة القاذف أحدهما الرمي والآخر عدم الشهود على زنا المقذوف متراخيا عن القذف وفوات الشهادة عليه به، فما دامت إقامة الشهادة عليه بالزنا ممكنة بخصومة القاذف فقد اقتضى لفظ الآية بقاءه على ما كان عليه غير محكوم ببطلان شهادته. وأيضا لا يخلو القاذف من أن يكون محكوما بكذبه وبطلان شهادته بنفس القذف أو أن يكون محكوما بكذبه بإقامة الحد عليه، فلو كان محكوما بكذبه بنفس القذف ولذلك بطلت شهادته فواجب أن لا تقبل بعد ذلك بينة على الزنا إذ قد وقع الحكم بكذبه والحكم بكذبه في قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقة في كون المقذوف زانيا، فلما لم يختلفوا في حكم قبول بينته على المقذوف بالزنا وأن ذلك يسقط عنه الحد ثبت أن قذفه لم يوجب أن يكون كاذبا فواجب أن لا تبطل شهادته إذ لم يحكم بكذبه، لأن من سمعناه يخبر بخبر لا نعلم فيه صدقه من كذبه لم تبطل به شهادته، ألا ترى أن قاذف امرأته بالزنا لا تبطل شهادته بنفس القذف ولا يكون محكوما بكذبه بنفس قذفه؟ ولو كان كذلك لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته ولما أمر أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من الزنا مع الحكم بكذبه، ولما وعظ في ترك اللعان الكاذب منهما، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما لاعن بين الزوجين: " الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ " فأخبر أن أحدهما بغير عينه هو الكاذب ولم يحكم بكذب القاذف دون الزوجة، وفي ذلك دليل على أن نفس القذف لا يوجب تفسيقه ولا الحكم بتكذيبه، ويدل عليه قوله عز وجل: (لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط بل إذا لم يأتوا بالشهداء، ومعلوم أن المراد إذا لم يأتوا بالشهداء عند الخصومة في القذف، فغير جائز إبطال شهادته قبل وجود هذه الشريطة وهو عجزه عن إقامة البينة بعد الخصومة في حد القذف عند الإمام، إذ كان الشهداء إنما يقيمون الشهادة عند الإمام فمن حكم بتفسيقه وأبطل شهادته بنفس القذف فقد خالف الآية.
(٣٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 349 350 351 352 353 354 355 356 357 358 359 ... » »»