أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٥٣
فإن اعترفت فارجمها ". ولما كان حد القذف واجبا لما انتهك من عرضه بقذفه مع إحصانه وجب أن تكون المطالبة به حقا له دون الإمام، كما أن حد السرقة لما كان واجبا لما انتهك من حرز المسروق وأخذ ماله لم يثبت إلا بمطالبة المسروق منه، وأما فرق مالك بين أن يسمعه الإمام أو يشهد به الشهود فلا معنى له، لأن هذا إن كان مما للإمام إقامته من غير مطالبة المقذوف فواجب أن لا يختلف فيه حكم سماع الإمام وشهادة الشهود من غير سماعه.
باب شهادة القذف قال الله عز وجل: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون). قال أبو بكر: حكم الله تعالى في القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء على ما قذفه بثلاثة أحكام، أحدها: جلد ثمانين، والثاني: بطلان الشهادة، والثالث: الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب.
واختلف أهل العلم في لزوم هذه الأحكام له وثبوتها عليه بالقذف بعد اتفاقهم على وجوب الحد عليه بنفس القذف عند عجزه عن إقامة البينة على الزنا، فقال قائلون: " قد بطلت شهادته ولزمته سمة الفسق قبل إقامة الحد عليه "، وهو قول الليث بن سعد والشافعي. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك: " شهادته مقبولة ما لم يحد "، وهذا يقتض من قولهم أنه غير موسوم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد، لأنه لو لزمته سمة الفسق لما جازت شهادته، إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها إذا كان فسقه من طريق الفعل لا من جهة التدين والاعتقاد، والدليل على صحة ذلك قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)، فأوجب بطلان شهادته عند عجزه عن إقامة البينة على صحة قذفه. وفي ذلك ضربان من الدلالة على جواز شهادته وبقاء حكم عدالته ما لم يقع الحد به، أحدهما قوله: (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) وثم للتراخي في حقيقة اللغة فاقتضى ذلك أنهم متى أتوا بأربعة شهداء متراخيا عن حال القذف أن يكونوا غير فساق بالقذف لأنه قال (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) الآية، فكان تقديره: ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأولئك هم الفاسقون، فإنما حكم بفسقهم متراخيا عن حال القذف في حال العجز عن إقامة الشهود، فمن حكم بفسقهم بنفس القذف فقد خالف حكم الآية وأوجب ذلك أن تكون شهادة القاذف غير مردودة لأجل القذف، فثبت بذلك أن بنفس القذف لم تبطل شهادته. وأيضا فلو كانت شهادته تبطل بنفس القذف لما كان تركه إقامة البينة على زنا المقذوف مبطلا لشهادته، وهي قد بطلت قبل ذلك. والوجه الآخر: أن المعقول من هذا
(٣٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 348 349 350 351 352 353 354 355 356 357 358 ... » »»