أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٣٤٩
الحال فقد حصل الاتفاق على أن الرمي بالزنا مراد، ولما كان كذلك صار بمنزلة قوله:
والذين يرمون المحصنات بالزنا، إذ حصول الاجماع على أن الزنا مراد بمنزلة ذكره في اللفظ، فوجب بذلك أن يكون وجوب حد القذف مقصورا على القذف بالزنا دون غيره.
وقد اختلف السلف والفقهاء في التعريض بالزنا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد بن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي: " لا حد في التعريض بالقذف ". وقال مالك: " عليه فيه الحد ". وروى الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: " كان عمر يضرب الحد في التعريض ". وروى ابن وهب عن مالك عن أبي الرحال عن أمه عمرة: " أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال أحدهما للآخر: والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية! فاستشار في ذلك عمر الناس، فقال قائل: مدح أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، نرى أن يجلد الحد، فجلده عمر الحد ثمانين "، ومعلوم أن عمر لم يشاور في ذلك إلا الصحابة الذين إذا خالفوا قبل، خلافهم فثبت بذلك حصول الخلاف بين السلف. ثم لما ثبت أن المراد بقوله: (والذين يرمون المحصنات) هو الرمي بالزنا لم يجز لنا إيجاب الحد على غيره إذ لا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريقها الاتفاق أو التوقيف وذلك معدوم في التعريض، وفي مشاورة عمر الصحابة في حكم التعريض دلالة على أنه لم يكن عندهم فيه توقيف وأنه قال اجتهادا ورأيا. وأيضا فإن التعريض بمنزلة الكناية المحتملة للمعاني، وغير جائز إيجاب الحد بالاحتمال لوجهين، أحدهما: أن الأصل أن القائل بريء الظهر من الجلد فلا نجلده بالشك والمحتمل مشكوك فيه، ألا ترى أن يزيد بن ركانة لما طلق امرأته البتة استحلفه النبي صلى الله عليه وسلم بالله ما أردت إلا واحدة فلم يلزمه الثلاث بالاحتمال؟ ولذلك قال الفقهاء في كنايات الطلاق إنها لا تجعل طلاقا إلا بدلالة.
والوجه الآخر: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: " ادرؤوا الحدود بالشبهات "، وأقل أحوال التعريض حين كان محتملا للقذف وغيره أن يكون شبهة في سقوطه. وأيضا قد فرق الله تعالى بين التعريض بالنكاح في العدة وبيد التصريح فقال: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم على الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا) [البقرة: 235] يعني نكاحا، فجعل التعريض بمنزلة الإضمار في النفس، فوجب أن يكون كذلك حكم التعريض بالقذف، والمعنى الجامع بينهما أن التعريض لما كان فيه احتمال كان في حكم الضمير لوجود الاحتمال فيه.
واختلف الفقهاء في حد العبد في القذف، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتي والثوري والشافعي: " إذا قذف العبد حرا فعليه أربعون
(٣٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 344 345 346 347 348 349 350 351 352 353 354 ... » »»