أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٢٥١
له: نحن لم نقل إن كل ما يستوي جده وهزله يستوي حال الإكراه والطوع فيه، وإنما قلنا إنه لما سول النبي صلى الله عليه وسلم بين الجاد والهازل في الطلاق علمنا أنه لا اعتبار فيه بالقصد للإيقاع بعد وجود القصد منه إلى القول، فاستدللنا بذلك على أنه لا اعتبار فيه للقصد للإيقاع بعد وجود لفظ الإيقاع من مكلف، وأما الكفر فإنما يتعلق حكمه بالقصد لا بالقول، ألا ترى أن من قصد إلى الجد بالكفر أو الهزل أنه يكفر بذلك قبل أن يلفظ به وأن القاصد إلى إيقاع الطلاق لا يقع طلاقه إلا باللفظ؟ ويبين لك الفرق بينهما أن الناسي إذا تلفظ بالطلاق وقع طلاقه ولا يصير كافرا بلفظ الكفر على وجه النسيان، وكذلك من غلط بسبق لسانه بالكفر لم يكفر ولو سبق لسانه بالطلاق طلقت امرأته، فهذا يبين الفرق بين الأمرين. وقد روي عن علي وعمر وسعيد بن المسيب وشريح وإبراهيم النخعي والزهري وقتادة قالوا: " طلاق المكره جائز ". وروي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير والحسن وعطاء وعكرمة وطاوس وجابر بن زيد قالوا: " طلاق المكره لا يجوز ". و روى سفيان عن حصين عن الشعبي قال: " إذا أكرهه السلطان على الطلاق فهو جائز وإن أكرهه غيره لم يجز ". وقال أصحابنا فيمن أكره بالقتل وتلف بعض الأعضاء على شرب الخمر أو أكل الميتة لم يسعه أن لا يأكل ولا يشرب وإن لم يفعل حتى قتل كان آثما، لأن الله تعالى قد أباح ذلك في حال الضرورة عند الخوف على النفس فقال: (إلا ما اضطررتم إليه) [الأنعام: 119] ومن لم يأكل الميتة عند الضرورة حتى مات جوعا كان آثما بمنزلة تارك أكل الخبز حتى يموت، وليس ذلك بمنزلة الإكراه على الكفر في أن ترك إعطاء التقية فيه أفضل، لأن أكل الميتة وشرب الخمر تحريمه من طريق السمع فمتى أباحه السمع فقد زال الحضر وعاد إلى حكم سائر المباحات، وإظهار الكفر محظور من طريق العقل لا يجوز استباحته للضرورات، وإنما يجوز له إظهار اللفظ على معنى المعاريض والتورية باللفظ إلى غير معنى الكفر من غير اعتقاد لمعنى ما أكره عليه فيصير اللفظ بمنزلة لفظ الناسي والذي يسبقه لسانه بالكفر، فكان ترك إظهاره أولى وأفضل وإن كان موسعا عليه إظهاره عند الخوف. وقالوا فيمن أكره على قتل رجل أو على الزنا بامرأة:
لا يسعه الإقدام عليه، لأن ذلك من حقوق الناس وهما متساويان في الحقوق، فلا يجوز إحياء نفسه بقتل غيره بغير استحقاق، وكذلك الزنا بالمرأة فيه انتهاك حرمتها بمعنى لا تبيحه الضرورة وإلحاقها بالشين والعار وليس كذلك عندهم الإكراه على القذف، فيجوز له أن يفعل من قبل أن القذف الواقع على وجه الإكراه لا يؤثر في المقذوف ولا يلحقه به شيء. فأحكام الإكراه مختلفة على الوجوه التي ذكرنا، منها ما هو واجب فيه إعطاء التقية وهو الإكراه على شرب الخمر وأكل الميتة ونحو ذلك مما طريق حظره السمع، ومنها مالا يجوز فيه إعطاء التقية وهو الإكراه على قتل من لا يستحق القتل
(٢٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 246 247 248 249 250 251 252 253 254 255 256 ... » »»