استثنائين لئلا يثق الطالبون للدنيا بأنهم لا محالة سينالون بسعيهم ما يريدون. ثم قال تعالى: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) فلم يستثن شيئا بعد وقوع السعي منهم على الوجه المأمور به، وشرط في السعي للآخرة أن يكون مؤمنا ومريدا لثوابها. قال محمد بن عجلان: من لم يكن فيه ثلاث خلال لم يدخل الجنة: نية صحيحة وإيمان صادق وعمل مصيب، قال: فقلت: عمن هذا؟ فقال: عن كتاب الله، قال الله تعالى: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن)، فعلق سعي الآخرة في استحقاق الثواب له بأوصاف ولم يستثن في المقصود شيئا ولم يخصص إرادة العاجلة بوصف بل أطلقها واستثنى في العطية والمعطى ما قدمنا.
قوله تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك) قد تقدم ذكر مريد العاجلة والساعي للآخرة وحكم ما يناله كل واحد منهما بقصده وإرادته، ثم أخبر أن نعمه جل وتعالى مبسوطة على البر والفاجر في الدنيا وأنها خاصة للمتقين في الآخرة، ألا ترى أن سائر نعم الله تعالى من الشمس والقمر والسماء والأرض بما فيها من المنافع والهواء والماء والنبات والحيوانات المأكولة والأغذية والأدوية وصحة الجسم والعافية إلى ما لا يحصى من النعم شاملة للبر والفاجر؟ والله الموفق.
باب بر الوالدين قال الله تعالى: (وقضى عنه ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) (وقضى ربك) معناه: أمر ربك، وأمر بالوالدين إحسانا، وقيل: معناه وأوصى بالوالدين إحسانا، والمعنى واحد، لأن الوصية أمر. وقد أوصى الله تعالى ببر الوالدين والإحسان إليهما في غير موضع من كتابه وقال: (ووصينا الانسان بوالديه إحسانا) [الأحقاف: 15]، وقال:
(أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) [لقمان: 14 و 15]، فأمر بمصاحبة الوالدين المشركين بالمعروف مع النهي عن طاعتهما في الشرك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من الكبائر عقوق الوالدين.
قوله تعالى: (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) قيل فيه: إن بلغت حال الكبر - وهو حال التكليف - وقد بقي معك أبواك أأحدهما فلا تقل لهما أف. وذكر ليث عن مجاهد قال: " لا تقل لهما إذا بلغا من الكبر ما كان يليان منك في الصغر فلا تقل لهما أف ". قال أبو بكر: اللفظ محتمل للمعنيين فهو عليهما، ولا محالة أن بلوغ الولد شرط في الأمر، إذ لا يصح تكليف غير البالغ، فإذا بلغ حال التكليف وقد بلغا هما حال