أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٢٥٠
وقد اختلف الفقهاء في طلاق المكره وعتاقه ونكاحه وأيمانه، فقال أصحابنا:
" ذلك كله لازم ". وقال مالك والشافعي: " لا يلزمه شيء من ذلك ". والذي يدل على لزوم حكم هذه الأشياء ظاهر قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) [البقرة: 230] ولم يفرق بين طلاق المكره والطائع، وقال تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا لأيمان بعد توكيدها) [النحل: 91] ولم يفرق بين عهد المكره وغيره، وقال: (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) [المائدة: 89]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه "، ويدل عليه أيضا ما روى يونس بن بكير عن الوليد بن جميع الزهري عن أبي الطفيل عن حذيفة قال: أقبلت أنا وأبي ونحن نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توجه إلى بدر، فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم لتريدون محمدا؟
فقلنا: لا نريده إنما نريد المدينة، قال: فأعطونا عهد الله وميثاقه لتنصرفن إلى المدينة ولا تقاتلون معه، فأعطيناهم عهد الله، فمررنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد بدرا فأخبرناه بما كان منا وقلنا: ما تأمر يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تفي لهم بعهدهم وتستعين الله عليهم "، فانصرفنا إلى المدينة فذلك منعنا من الحضور معهم. فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم إحلاف المشركين إياهم على وجه الإكراه وجعلها كيمين الطوع، فإذا ثبت ذلك في اليمين فالطلاق والعتاق والنكاح مثلها لأن أحدا لم يفرق بينهما. ويدل عليه حديث عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة "، فلما سوى النبي صلى الله عليه وسلم فيهن بين الجاد والهازل، ولأن الفرق بين الجد والهزل أن الجاد قاصد إلى اللفظ وإلى إيقاع حكمه والهازل قاصد إلى اللفظ غير مريد لإيقاع حكمه، علمنا أنه لا حظ للإرادة في نفي الطلاق وأنهما جميعا من حيث كانا قاصدين للقول أن يثبت حكمه عليهما، وكذلك المكره قاصد للقول غير مريد لإيقاع حكمه فهو كالهازل سواء.
فإن قيل: لما كان المكره على الكفر لا تبين منه امرأته واختلف حكم الطوع والإكراه فيه وكان الكفر يوجب الفرقة كالطلاق، وجب أن يختلف حكم طلاق المكره والطائع. قيل له: ليس لفظ الكفر من ألفاظ الفرقة لا كناية ولا تصريحا، وإنما تقع به الفرقة إذا حصل كافرا، والمكره على الكفر لا يكون كافرا، فلما لم يصر كافرا بإظهاره كلمة الكفر على وجه الإكراه لم تقع الفرقة، وأما الطلاق فهو من ألفاظ الفرقة والبينونة وقد وجد إيقاعه في لفظ مكلف فوجب أن لا يختلف حكمه في حال الإكراه والطوع.
فإن قال قائل: تساوى حال الجد والهزل في الطلاق لا يوجب تساوي حال الإكراه والطوع فيه، لأن الكفر يستوي حكم جده وهزله ولم يستو حال الإكراه والطوع فيه. قيل
(٢٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 245 246 247 248 249 250 251 252 253 254 255 ... » »»