أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٢٥٦
الكبر والضعف أو لم يبلغا فعليه الإحسان إليهما وهو مزجور أن يقول لهما أف، وهي كلمة تدل على الضجر والتبرم بمن يخاطب بها.
قوله تعالى: (ولا تنهرهما) معناه: لا تزجرهما على وجه الاستخفاف بهما والإغلاظ لهما. قال قتادة في قوله: (وقل لهما قولا كريما) قال: " لينا سهلا ". وقال هشام بن عروة عن أبيه: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) قال: " لا تمنعهما شيئا يريد انه ". وروى هشام عن الحسن أنه سئل: ما بر الوالدين؟ قال: " أن تبذل لهما ما ملكت وأطعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية ". وروى عمرو بن عثمان عن واصل بن السائب: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) قال: " لا تنفض يدك عليهما ". وقال عروة بن الزبير: " ما بر والده من أحد النظر إليه ". وعن أبي الهياج قال: سألت سعيد بن المسيب عن قوله: (قولا كريما) قال: " قول العبد الذليل للسيد الفظ الغليظ ". وعن عبد الله الرصافي قال: حدثني عطاء في قوله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) قال: " يداك لا ترفعهما على أبويك ولا تحد بصرك إليهما إجلالا وتعظيما ".
قال أبو بكر: قوله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) هو مجاز، لأن الذل ليس له جناح ولا يوصف بذلك، ولكنه أراد المبالغة في التذلل والتواضع لهما، وهو كقول امرىء القيس في وصف الليل:
فقلت له لما تمطى بصلبه * وأردف أعجازا وناء بكلكل وليس لليل صلب ولا إعجاز ولا كلكل، وهو مجاز، وإنما أراد به تكامله واستواءه. قوله تعالى: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) فيه الأمر بالدعاء لهما بالرحمة والمغفرة إذا كانا مسلمين، لأنه قال في موضع آخر: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى) [التوبة: 113]، فعلمنا أن مراده بالدعاء للوالدين خاص في المؤمنين وبين الله تعالى بهذه الآية تأكيد حق الأبوين، فقرن الأمر بالإحسان إليهما إلى الأمر بالتوحيد فقال: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)، ثم بين صفة الإحسان إليهما بالقول والفعل والمخاطبة الجميلة على وجه التذلل والخضوع ونهى عن التبرم والتضجر بهما بقوله: (فلا تقل لهما أف) ونهى عن الإغلاظ والزجر لهما بقوله (ولا تنهرهما)، فأمر بلين القول والاستجابة لهما إلى ما يأمرانه به ما لم يكن معصية، ثم عقبه بالأمر بالدعاء لهما في الحياة وبعد الوفاة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عظم حق الأم على الأب. وروى أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن
(٢٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 251 252 253 254 255 256 257 258 259 260 261 ... » »»