أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ٢٣٩
نهى عن لحوم الحمر وأذن لهم في لحوم الخيل، فوردت أخبار جابر في ذلك متعارضة، فجائز حينئذ أن يقال فيها وجهان، أحدهما: أنه إذا ورد خبران أحدهما حاظر والآخر مبيح فالحضر أولى، فجائز أن يكون الشارع أباحه في وقت ثم حظره، وذلك لأن الأصل كان الإباحة والحضر طارىء عليها لا محالة، ولا نعلم إباحة بعد الحضر، فحكم الحضر ثابت لا محالة إذ لم تثبت إباحة بعد الحضر. وقد روي عن جماعة من السلف هذا المعنى، وذلك لأن ابن وهب روى عن الليث بن سعد قال: خسفت الشمس بعد العصر ونحن بمكة سنة ثلاث عشر ومائة، وبها يومئذ رجال من أهل العلم كثير منهم ابن شهاب وأبو بكر بن حزم وقتادة وعمرو بن شعيب، قال: فقمنا قياما بعد العصر ندعو الله، فقلت لأيوب بن موسى القرشي: ما لهم لا يصلون وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم! قال: النهي قد جاء في الصلاة بعد العصر أن لا تصلى، فلذلك لا يصلون، وإن النهي يقطع الأمر، فهذا أحد الوجهين في حديث جابر. والوجه الآخر: أن يتعارض خبرا جابر فيسقطا كأنهما لم يردا، وقد روى إسرائيل بن يونس عن عبد الكريم الجزري عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: كنا نأكل لحوم الخيل، قال عطاء: فقلت له: فالبغال؟ قال: أما البغال فلا. وروى هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء ابنة أبي بكر قالت:
" نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ". وهذا لا حجة فيه للمخالف لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم به وأقرهم عليه، ولو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم علم به وأقرهم عليه كان محمولا على أنه كان قبل الحضر. وقد روى بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الخيل ". وقال الزهري: ما علمنا الخيل أكلت إلا في حصار. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: " لا بأس بلحوم الخيل "، وروي نحوه عن الأسود بن زيد والحسن البصري وشريح. وأبو حنيفة لا يطلق فيه التحريم وليس هو عنده كلحم الحمار الأهلي وإنما يكرهه لتعارض الأخبار الحاظرة والمبيحة فيه، ويحتج له من طريق النظر أنه ذو حافر أهلي فأشبه الحمار والبغل. ومن جهة أخرى اتفاق الجميع على أن لحم البغل لا يؤكل، وهو من الفرس، فلو كانت أمه حلالا لكان حكمه حكم أمه، لأن حكم الولد حكم الأم إذ هو كبعضها، ألا ترى أن حمارة أهلية لو ولدت من حمار وحشي لم يؤكل ولدها، ولو ولدت حمارة وحشية من حمار أهلي أكل ولدها؟ فكان الولد تابعا لأمه دون أبيه، فلما كان لحم البغل غير مأكول وإن كانت أمه فرسا دل ذلك على أن الخيل غير مأكولة.
قوله تعالى: (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) يحتج به أبو يوسف ومحمد فيمن حلف لا يلبس حليا فلبس لؤلؤا أنه يحنث، لتسمية الله إياه حليا. وأبو حنيفة يقول:
(٢٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 234 235 236 237 238 239 240 241 242 243 244 ... » »»