أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١١٣
والكفار على اخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، وأخبر أنهم بدأوا بالغدر ونكث العهد وأمر بقتالهم بقوله: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم). وجائز أن يكون جميع ذلك مرتبا على قوله: (وإن نكثوا أيمانهم بعد عهدهم)، وجائز أن يكون قد كانوا نقضوا العهد بقوله:
(ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم).
قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) فإن معناه: أم حسبتم أن تتركوا ولم تجاهدوا، لأنهم إذا جاهدوا علم الله ذلك منهم، فأطلق اسم العلم وأراد به قيامهم بفرض الجهاد حتى يعلم الله وجود ذلك منهم.
مطلب: في حجة الاجماع وقوله: (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) يقتضي لزوم اتباع المؤمنين وترك العدول عنهم كما يلزم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على لزوم حجة الاجماع، وهو كقوله: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى) [النساء: 115].
والوليجة المدخل، يقال: ولج إذا دخل، كأنه قال: لا يجوز أن يكون له مدخل غير مدخل المؤمنين. ويقال إن الوليجة بمعنى الدخيلة والبطانة، وهي من المداخلة والمخالطة والمؤانسة، فإن كان المعنى هذا فقد دل على النهي عن مخالطة غير المؤمنين ومداخلتهم وترك الاستعانة بهم في أمور الدين كما قال: (لا تتخذوا بطانة من دونكم) [آل عمران: 118].
قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله). عمارة المسجد تكون بمعنيين، أحدهما: زيارته والكون فيه، والآخر: ببنائه وتجديد ما استرم منه، وذلك لأنه يقال: اعتمر، إذا زار، ومنه العمرة لأنها زيارة البيت، وفلان من عمار المساجد إذا كان كثير المضي إليها والكون فيها، وفلان يعمر مجلس فلان إذا أكثر غشيانه له. فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ومن بنائها وتولي مصالحها والقيام بها لانتظام اللفظ للأمرين.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان). فيه نهي للمؤمنين عن موالاة الكفار ونصرتهم والاستنصار بهم وتفويض أمورهم إليهم وإيجاب التبري منهم وترك تعظيمهم وإكرامهم، وسواء بين الآباء والإخوان في ذلك، إلا أنه قد أمر مع ذلك بالإحسان إلى الأب الكافر وصحبته بالمعروف
(١١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 ... » »»