أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١١١
يسلم ". وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك فيمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: " هي ردة يستتاب فإن تاب نكل وإن لم يتب قتل " قال: " يضرب مائة ثم يترك حتى إذا هو برئ ضرب مائة " ولم يذكر فرقا بين المسلم والذمي. وقال الليث في المسلم يسب النبي صلى الله عليه وسلم:
" إنه لا يناظر ولا يستتاب ويقتل مكانه وكذلك اليهودي والنصارى ". وقال الشافعي:
" ويشترط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله أو محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه أو قطع عليه طريقا أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت منه ذمة الله وذمة رسوله ". وظاهر الآية يدل على أن من أظهر سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل العهد فقد نقض عهده، لأنه قال تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر) فجعل الطعن في ديننا بمنزلة نكث الأيمان، إذ معلوم أنه لم يرد أن يجعل نكث الأيمان والطعن في الدين بمجموعهما شرطا في نقض العهد، لأنهم لو نكثوا الأيمان بقتال المسلمين ولم يظهروا الطعن في الدين لكانوا ناقضين للعهد، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاونة قريش بني بكر على خزاعة وهم حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم نقضا للعهد، وكانوا يفعلون ذلك سرا، ولم يكن منهم إظهار طعن في الدين، فثبت بذلك أن معنى الآية: وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر.
فإذا ثبت ذلك كان من أظهر سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل العهد ناقضا للعهد، إذ سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر الطعن في الدين، فهذا وجه يحتج به القائلون بما وصفنا.
ومما يحتج به لذلك ما روى أبو يوسف عن حصين بن عبد الرحمن عن رجل عن أبي عمران أن رجلا قال له: إني سمعت راهبا سب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم العهد على هذا. وهو إسناد ضعيف. وجائز أن يكون قد شرط عليهم أن لا يظهروا سب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى سعيد عن قتادة عن أنس أن يهوديا مر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدرون ما قال؟ " فقالوا: نعم، ثم رجع فقال مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك ".
وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:
السام عليكم، قالت: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله " فقلت: يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " قلت عليكم ". ومعلوم أن مثله لو كان من مسلم لصار به مرتدا مستحقا للقتل، ولم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وروى شعبة عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك:
أن امرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها فقالوا: ألا تقتلها؟
(١١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 ... » »»