أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١١٢
قال: " لا "، قال: فما زلت أعرفها في سهوات وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا خلاف بين المسلمين أن من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فهو ممن ينتحل الاسلام أنه مرتد يستحق القتل، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم مبيحة لدمها بما فعلت، فكذلك إظهار سب النبي صلى الله عليه وسلم من الذمي مخالف لإظهار المسلم له.
وقوله: (فقاتلوا أئمة الكفر) روى ابن عباس ومجاهد أنهم رؤساء قريش. وقال قتادة: أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وسهيل بن عمرو، وهم الذين هموا باخراجه. قال أبو بكر: ولم يختلف في أن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها مع علي بن أبي طالب ليقرأها على الناس في سنة تسع وهي السنة التي حج فيها أبو بكر، وقد كان أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة قد كانوا قتلوا يوم بدر ولم يكن بقي من رؤساء قريش أحد يظهر الكفر في وقت نزول براءة، وهذا يدل على أن رواية من روى ذلك في رؤساء قريش وهم اللهم إلا أن يكون المراد قوما من قريش قد كانوا أظهروا الاسلام، وهم الطلقاء، من نحو أبي سفيان وأحزابه ممن لم ينق قلبه من الكفر، فيكون مراد الآية هؤلاء دون أهل العهد من المشركين الذين لم يظهروا الاسلام، وهم الذين كانوا هموا باخراج الرسول من مكة وبدرهم بالقتال والحرب بعد الهجرة.
وجائز أن يكون مراده هؤلاء الذين ذكرنا وسائر رؤساء العرب الذين كانوا معاضدين لقريش على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وقتال المسلمين، فأمر الله تعالى بقتالهم وقتلهم إن هم نكثوا أيمانهم وطعنوا في دين المسلمين.
وقوله تعالى: (إنهم لا أيمان لهم) معناه: لا أيمان لهم موافية موثوقا بها. ولم ينف به وجود الأيمان منهم لأنه قد قال بديا: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم) وعطف على ذلك أيضا قوله: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) فثبت أنه لم يرد بقوله:
(لا أيمان لهم) نفي الأيمان أصلا وإنما أراد به نفي الوفاء بها. وهذا يدل على جواز إطلاق " لا " والمراد نفي الفضل دون نفي الأصل، ولذلك نظائر موجودة في السنن وفي كلام الناس، كقوله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " و " ليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه " و " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله " ونحو ذلك، فأطلق الإمامة في الكفر لأن الإمام هو المقتدى به المتبع في الخير والشر، قال الله تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) [القصص: 41]، وقال في الخير: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) [الأنبياء: 73]، فالإمام في الخير هاد مهتد والإمام في الشر ضال مضل. قد قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين وهموا بمعاونة المنافقين
(١١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 ... » »»