أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٩٩
وقتادة قالوا: " ما قذفه ميتا ". وروي عن ابن عباس أيضا وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد قالوا: " المملوح منه ". والقول الأول أظهر، لأنه ينتظم إباحة الصنفين مما صيد منه وما لم يصد، وأما المملوح فقد تناوله قوله: (صيد البحر)، ويكون قوله: (وطعامه) على هذا التأويل تكرارا لما انتظمه اللفظ الأول.
فإن قال قائل: هذا يدل على إباحة الطافي، لأنه قد انتظم ما صيد منه وما لم يصد والطافي لم يصد. قيل له: إنما تأول السلف قوله: (وطعامه) على ما قذفه البحر، وعندنا أن ما قذفه البحر ميتا فليس بطاف وإنما الطافي ما يموت في البحر حتف أنفه.
فإن قيل: قالوا ما قذفه البحر ميتا، وهذا يوجب أن يكون قد مات فيه ثم قذفه، وهذا يدل على أنهم قد أرادوا به الطافي. قيل له: وليس كل ما قذفه البحر ميتا يكون طافيا، إذ جائز أن يموت في البحر بسبب طرأ عليه فقتله من برد أو حر أو غيره فلا يكون طافيا، وقد بينا الكلام في الطافي فيما تقدم من هذا الكتاب. وقد روي عن الحسن في قوله:
(وطعامه) قال: ما وراء بحركم هذا كله البحر وطعامه البر والشعير والحبوب ". رواه أشعث بن عبد الملك عن الحسن، فلم يجعل البحر في هذا الموضع بحور المياه وجعله على ما اتسع من الأرض، لأن العرب تسمي ما اتسع بحرا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للفرس الذي ركبه لأبي طلحة: " وجدناه بحرا " أي واسع الخطو. وقد روى حبيب بن الزبير عن عكرمة في قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر) [الروم: 41] أنه أرد بالبحر الأمصار، لأن العرب تسمى الأمصار البحر. وروى سفيان عن بعضهم عن عكرمة:
(ظهر الفساد في البر والبحر) [الروم: 41] قال: " البر الفيافي التي ليس فيها شئ، والبحر القرى ". والتأويل الذي روي عن الحسن غير صحيح، لأنه قد علم بقوله تعالى:
(أحل لكم صيد البحر) أن المراد به بحر الماء وأنه لم يرد به البر ولا الأمصار، لأنه عطف عليه قوله تعالى: (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما).
وقوله تعالى: (متاعا لكم وللسيارة) روي عن ابن عباس والحسن وقتادة قالوا:
" منفعة للمقيم والمسافر ". فإن قال قائل: هل اقتضى قوله: (أحل لكم صيد البحر) إباحة صيد الأنهار؟ قيل له: نعم، لأن العرب تسمي النهر بحرا، ومنه قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر) [الروم: 41]، وقد قيل إن الأغلب على البحر هو الذي يكون ماؤه ملحا، إلا أنه إذا جرى ذكره على طريق الجملة انتظم الأنهار أيضا. وأيضا فالمقصد فيه صيد الماء، فسائر حيوان الماء يجوز للمحرم اصطياده، ولا نعلم خلافا في ذلك بين الفقهاء. وقوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر) يحتج به من يبيح أكل جميع حيوان البحر، وقد اختلف أهل العلم فيه، والله أعلم.
(٥٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 594 595 596 597 598 599 600 601 602 603 604 ... » »»