أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٩٦
شيئا. وهو قول فقهاء الأمصار، وهو الصحيح، لأن قوله تعالى: (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء) يوجب الجزاء في كل مرة، كقوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحريم رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) [النساء: 92]. وذكره الوعيد للعائد لا ينافي وجوب الجزاء، ألا ترى أن الله تعالى قد جعل حد المحارب جزاء له بقوله: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) [المائدة: 33]، ثم عقبه بذكر الوعيد بقوله: (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) [المائدة: 33]؟ فليس إذا في ذكر الانتقام من العائد نفي لإيجاب الجزاء. وعلى أن قوله تعالى: (ومن عاد فينتقم الله منه) لا دلالة فيه على أن المراد العائد إلى قتل الصيد بعد قتله لصيد آخر قبله، لأن قوله: (عفا الله عما سلف) يحتمل أن يريد به: " عفا الله عما سلف قبل التحريم ومن عاد - يعني بعد التحريم " وإن كان أول صيد بعد نزول الآية، وإذا كان فيه احتمال ذلك لم يدل على أن العائد في قتل الصيد بعد قتله مرة أخرى ليس عليه إلا الانتقام.
فصل قوله تعالى: (ليذوق وبال أمره) يحتج به لأبي حنيفة في المحرم إذا أكل من الصيد الذي لزمه جزاؤه أن عليه قيمة ما أكل يتصدق به، لأن الله تعالى أخبر أنه أوجب عليه الغرم ليذوق وبال أمره باخراج هذا القدر من ماله، فإذا أكل منه فقد رجع من الغرم في مقدار ما أكل منه، فهو غير ذائق بذلك وبال أمره، لأن من غرم شيئا وأخذ مثله لا يكون ذائقا وبال أمره، فدل ذلك على صحة قوله. وقال أصحابنا: " إن شاء المحرم صام عن كل نصف صاع من الطعام يوما، وإن شاء صام عن بعض وأطعم بعضا " فأجازوا الجمع بين الصيام والطعام، وفرقوا بينه وبين الصيام في كفارة اليمين مع الإطعام فلم يجيزوا الجمع بينهما، وفرقوا أيضا بينه وبين العتق والطعام في كفارة اليمين بأن يعتق نصف عبد ويطعم خمسة مساكين. فأما الصوم في جزاء الصيد فإنما أجازوا الجمع بينه وبين الطعام من قبل أن الله تعالى جعل الصيام عدلا للطعام ومثلا له بقوله: (أو عدل ذلك صياما)، ومعلوم أنه لم يرد بقوله: (عدل ذلك) أن يكون مثلا له في حقيقة معناه، إذ لا تشابه بين الصيام وبين الطعام، فعلمنا أن المراد المماثلة بينهما في قيامه مقام الطعام ونيابته عنه لمن صام بعضا، فكأنه قد أطعم بقدر ذلك فجاز ضمه إلى الطعام فكان الجميع طعاما. وأما الصيام في كفارة اليمين فإنما يجوز عند عدم الطعام وهو بدل منه، فغير جائز الجمع بينهما، إذ لا يخلو من أن يكون واجدا أو غير واجد، فإن كان واجدا للطعام لم يجزه الصيام، وإن كان غير واجد فالصوم فرضه بدلا منه، وغير جائز الجمع بين البدل والمبدل منه، كالمسح على أحد الخفين وغسل الرجل الأخرى
(٥٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 591 592 593 594 595 596 597 598 599 600 601 ... » »»