أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٣
إلا عملناه وانتهينا عن المنكر حتى لم يبق شيء من المنكر إلا انتهينا عنه، أيسعنا أن لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر؟ قال: " مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهو عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله "، فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجرى سائر الفروض في لزوم القيام به مع التقصير في بعض الواجبات. ولم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث، فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح، وسموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى حمل السلاح وقتال الفئة الباغية، مع ما قد سمعوا فيه من قول الله تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) [الحجرات: 9] وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره، وزعموا مع ذلك أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح، فصاروا شرا على الأمة من أعدائها المخالفين لها، لأنهم أقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية وعن الانكار على السلطان الظلم والجور، حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار بل المجوس وأعداء الاسلام حتى ذهبت الثغور وشاع الظلم وخربت البلاد وذهب الدين والدنيا وظهرت الزندقة والغلو ومذاهب الثنوية والخرمية والمزدكية، والذي جلب ذلك كله عليهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على السلطان الجائر، والله المستعان.
وقد حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عباد الواسطي قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا إسرائيل قال: حدثنا محمد بن جحادة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر ". وحدثنا محمد بن عمر قال: أخبرني أحمد بن محمد بن عمرو بن مصعب المروزي قال: سمعت أبا عمارة قال: سمعت الحسن بن رشيد يقول:
سمعت أبا حنيفة يقول: أنا حدثت إبراهيم الصائغ عن عكرمة عن ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ".
قوله تعالى: (وما الله يريد ظلما للعباد) قد اقتضى ذلك نفي إرادة الظلم من كل وجه، فلا يريد هو أن يظلمهم ولا يريد أيضا ظلم بعضهم لبعض لأنهما سواء في منزلة القبح، ولو جاز أن يريد ظلم بعضهم لجاز أن يريد ظلمه لهم، ألا ترى أنه لا فرق في
(٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 ... » »»