أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٩١
يدل إذا كان المراد حصول الطهارة على سقوط اعتبار الترتيب وإيجاب النية في الوضوء.
فإن قيل: لما ذكر ذلك عقيب التيمم فينبغي أن يدل على سقوط اعتبار النية في التيمم كما دل على سقوطها في الوضوء. قيل له: لما كان التيمم يقتضي إحضار النية في فحواه ومقتضاه علمنا أنه لم يرد به اسقاط ما انتظمه، وأما الوضوء والغسل فلا يقتضيان النية فوجب اعتبار عمومه فيهما. وعلى أن قوله: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم) كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره، فصح اعتبار عمومه في جميع ما انتظمه لفظه إلا ما قام دليل خصوصه.
فصل قال أبو بكر: قد ذكرنا ما حضرنا من علم أحكام هذه الآية، وما في ضمنها من الدلائل على المعاني، وما يشتمل عليه من وجوه الاحتمال على ما ذهب إليه المختلفون فيها، وذكرناه عن قائليها من السلف وفقهاء الأمصار وإنزال الله إياها بهذه الألفاظ المحتملة للمعاني، ووجوه الدلالات على الأحكام مع أمره إيانا باعتبارها والاستدلال بها في قوله تعالى: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [النساء: 83] وقوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل: 44] فحثنا على التفكر فيه، وحرضنا على الاستنباط والتدبر، وأمرنا بالاعتبار لنتسابق إلى إدراك أحكامه وننال درجة المستنبطين والعلماء الناظرين. ودل بما أنزل من الآي المحتملة للوجوه من الأحكام التي طريق استدراك معانيها السمع على تسويغ الاجتهاد في طلبها، وأن كلا منهم مكلف بالقول بما أداه إليه اجتهاده واستقر عليه رأيه ونظره، وأن مراد الله من كل واحد من المجتهدين اعتقاد ما أداه إليه نظره، إذ لم يكن لنا سبيل إلى استدراكه إلا من طريق السمع وكان جائزا تعبد كل واحد منهم من طريق النظر بمثل ما حصل عليه اجتهاده، فوجب من أجل ذلك أن يكون من حيث جعل لفظ الكتاب محتملا للمعاني أن يكون مشرعا لكل واحد من المجتهدين ما دل عليه عنده فحوى الآية وما في مضمون الخطاب ومقتضاه من وجوه الاحتمال. فانظر على كم اشتملت هذه الآية بفحواها ومقتضاها من لطيف المعاني وكثرة الفوائد وضروب ما أدت إليه من وجوه الاستنباط! وهذه إحدى دلائل إعجاز القرآن، إذ غير جائز وجود مثله في كلام البشر. وأنا ذاكرنا مجملا ما تقدم ذكره مفصلا ليكون أقرب إلى فهم قارئه إذا كان مجموعا محصورا، والله تعالى نسأل التوفيق.
فأول ما ذكرنا من حكم قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة) ما احتمله اللفظ من
(٤٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 486 487 488 489 490 491 492 493 494 495 496 ... » »»