أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٨٠
تكون طهارته باقية أو زائلة، فإن كانت زائلة فالواجب أن لا يصلي بها نفلا لأن النفل والفرض لا يختلفان في باب الطهارة، وإن كانت باقية فجائز أن يصلي بها فرضا آخر.
فإن قيل: قد خفف أمر النفل عن الفرض حتى جاز على الراحلة وإلى غير القبلة من غير ضرورة، ولا يجوز فعل الفرض على هذا الوجه إلا لضرورة. قيل له: إنهما وإن اختلفا من هذا الوجه فلم يختلفا في أن شرط كل واحد منهما الطهارة، فمن حيث جاز النفل بالتيمم الذي أدى به الفرض فواجب أن يجوز فعل فرض آخر به، وإنما خفف أمر النفل في جواز فعله على الراحلة وإلى غير القبلة لأن فعل الفرض جائز على هذه الصفة في حال الضرورة، وأما الطهارة فلا يختلف فيها حكم النفل والفرض في الأصول.
واستدل من خالف في ذلك بقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) إلى قوله: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وذلك يقتضي وجوب تجديد الطهارة على كل قائم إليها، فوجب بحق العموم إيجاب تجديد التيمم لكل صلاة. قيل له: هذا غلط، لأن قوله تعالى: (إذا قمتم) لا يقتضي التكرار في اللغة، وقد بيناه فيما سلف، ألا ترى أنه لم يقتضه في استعمال الماء؟ فكذلك في التيمم. وعلى أنه أوجب التيمم في الحال التي لو كان الماء موجودا لكان مأمورا باستعماله، فجعل التيمم بدلا منه، فإنما يجب التيمم على الوجه الذي يجب فيه الأصل، فأما حال أخرى غير هذه فليس في الآية ذكر إيجابه فيها، فإذا كان الماء لو كان موجودا لم يلزمه تجديد الطهارة به للصلاة الثانية بعد ما صلى بها الصلاة الأولى كان كذلك حكم التيمم.
فإن قيل: التيمم لا يرفع الحدث، فليس هو بمنزلة الماء الذي يرفعه، فلما كان الحدث باقيا مع التيمم وجب عليه تجديده. قيل له: ليس بقاء الحدث علة لإيجاب تكرار التيمم، لأنه لو كان كذلك لوجب عليه تكراره أبدا قبل الدخول في الصلاة لهذه العلة، فلما جاز أن يفعل الصلاة الأولى بالتيمم مع بقاء الحدث كانت الثانية مثلها إذا كان التيمم مفعولا لأجل ذلك الحدث بعينه الذي يريد إيجاب التيمم من أجله، وقد وقع له مرة فلا يجب ثانية. وأيضا فإن هذه العلة منتقضة بالمسح على الخفين لبقاء الحدث في الرجل مع المسح ويجوز فعل صلوات كثيرة به، وينتقض أيضا بتجويز مخالفينا صلاة نافلة بعد الفرض لوجود الحدث.
فإن قيل: هلا جعلته كالمستحاضة عند خروج وقتها! قيل له: قد ثبت عندنا أن رخصة المستحاضة مقدرة بوقت الصلاة، ولا نعلم أحدا يجعل رخصة التيمم مقدرة بالوقت، فهو قياس فاسد منتقض. وعلى أن المستحاضة مخالفة للمتيمم من قبل أنه قد وجد منها حدث بعد وضوئها، والوقت رخصة في فعل الصلاة مع الحدث، فإذا خرج
(٤٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 475 476 477 478 479 480 481 482 483 484 485 ... » »»