أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٣٩٧
الأكل، وذلك غير ممكن في الطير فلم يكن معلما فلا يكون ما قتله مذكى. إلا أن ذلك يؤدي إلى أن لا تكون لذكر التعليم في الجوارح من الطير فائدة، إذ كان صيدها غير مذكى، وأن يكون المعلم وغير المعلم فيه سواء، وذلك غير جائز لأن الله تعالى قد عمم الجوارح كلها وشرط تعليمها ولم يفرق بين الكلب وبين الطير فوجب استعمال عموم اللفظ فيها كلها، فيكون من جوارح الطير ما يكون معلما وكذلك من الكلاب وإن اختلفت وجوه تعليمها، فيكون من تعليم الكلاب ونحوها ترك الأكل ومن تعليم جوارح الطير أن يجيبه إذا دعاه ويألفه ولا ينفر عنه، حتى يكون التعليم عاما في جميع ما ذكر في الآية.
ومن الدليل على أن من شرائط ذكاة صيد الكلب ونحوه ترك الأكل قول الله تعالى:
(فكلوا مما أمسكن عليكم) ولا يظهر الفرق بين إمساكه على نفسه وبين إمساكه علينا إلا بترك الأكل، ولو لم يكن ترك الأكل مشروطا لزالت فائدة قوله: (فكلوا مما أمسكن عليكم)، فلما كان ترك الأكل علما لإمساكه علينا وكان الله إنما أباح لنا أكل صيدها بهذه الشريطة، وجب أن يكون ما أمسكه على نفسه محظورا.
فإن قيل: فقد يأكل البازي منه ويكون مع الكل ممسكا علينا. قيل له: الإمساك علينا إنما هو مشروط في الكب ونحوه، فأما الطير فلم يشرط فيه أن يمسكه علينا لما قدمناه بديا. ويدل على أن إمساك الكلب علينا أن لا يأكل منه وأنه متى أكل منه كان ممسكا على نفسه وما روي عن ابن عباس أنه قال: " إذا أكل منه الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه "، فأخبر أن الإمساك علينا تركه للأكل، فإذا كان اسم الإمساك يتناول ما ذكره ولو لم يتناوله لم يتأوله عليه، وجب حمل الآية عليه من حيث صار ذلك اسما له.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا، فثبتت حجته من وجهين، أحدهما: بيان معنى الآية والمراد بها، والثاني: نص السنة في تحريم ذلك. حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب المعلم، فقال: " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال: قال عدي بن حاتم:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض، فقال: " إذا أصاب بحده فكل وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ ". قلت: أرسل كلبي؟ قال: " إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل، وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه "، وقال: أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر؟ قال: " لا
(٣٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 392 393 394 395 396 397 398 399 400 401 402 ... » »»