قال أبو بكر: قد اقتضى ظاهر هذا الحديث الأول أن تكون الإباحة تناولت ما علمنا من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع بها، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح عنه والانتفاع بها بسائر وجوه الانتفاع إلا ما خصه الدليل وهو الأكل. ومن الناس من يجعل في الكلام حذفا، فجعله بمنزلة: قل أحل لكم الطيبات من صيد ما علمتم من الجوارح، ويستدل عليه بحديث عدي بن حاتم الذي ذكرناه حين سأله عن صيد الكلاب فأنزل الله تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين)، وحديث أبي رافع فيه أنه سئل عما أحل من الكلاب التي أمروا بقتلها فأنزل الله تعالى الآية، وليس يمتنع أن تكون الآية منتظمة لإباحة الانتفاع بالكلاب وبصيدها جميعا، وحقيقة اللفظ تقتضي الكلاب أنفسها، لأن قوله: (وما علمتم) يوجب إباحة ما علمنا، وإضمار الصيد فيه يحتاج إلى دلالة، وفي فحوى الآية دليل على إباحة صيدها أيضا وهو قوله: (فكلوا مما أمسكن عليكم) فحمل الآية على المعنيين واستعمالها فيهما على الفائدتين أولى من الاقتصار على أحدهما. وقد دلت الآية أيضا على أن شرط إباحة الجوارح أن تكون معلمة، لقوله: (وما علمتم من الجوارح) وقوله: (تعلمونهن مما علمكم الله).
وأما الجوارح فإنه قد قيل إنها الكواسب للصيد على أهلها، وهي الكلاب وسباع الطير التي تصطاد وغيرها، واحدها " جارح " ومنه سميت الجارحة لأنه يكسب بها، قال الله تعالى: (ما جرحتم بالنهار) [الأنعام: 60] يعني: ما كسبتم، ومنه: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) [الجاثية: 21]، وذلك يدل على جواز الاصطياد بكل ما علم الاصطياد من سائر ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير. وقيل في الجوارح إنها ما تجرح بناب أو مخلب، قال محمد في الزيادات: إذا صدم الكلب الصيد ولم يجرحه فمات لم يؤكل لأنه لم يجرحه بناب أو مخلب، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين) فإنما يحل صيد ما يجرح بناب أو مخلب. وإذا كان الاسم يقع عليهما فليس يمتنع أن يكونا مرادين باللفظ، فيريد بالكواسب ما يكسب بالاصطياد فيفيد الأصناف التي يصطاد بها من الكلاب والفهود وسباع الطير وجميع ما يقبل التعليم، ويفيد مع ذلك في شرط الذكاة وقوع الجراحة بالمقتول من الصيد وأن ذلك شرط ذكاته. ويدل أيضا على أن الجراحة مرادة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في المعراض أنه: " إن خزق بحده فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل ". ومتى وجدنا للنبي صلى الله عليه وسلم حكما يواطئ معنى ما في القرآن، وجب حمل مراد القرآن عليه وأن ذلك مما أراد الله تعالى به.
وقوله تعالى: (مكلبين) قد قيل فيه وجهان، أحدهما: أن المكلب هو صاحب