منه، فقد اقتضى ظاهر الآية إباحة أكل الباقي إذ هو ممسك علينا. قيل له: هذا غلط من وجوه، أحدها: أن من روي عنه معنى الإمساك من السلف قالوا فيه قولين، أحدهما: أن لا يأكل منه، وهو قول ابن عباس وقول من قال حبسه علينا بعد القتل، ولم يقل أحد منهم إن ترك أكل الباقي منه بعدما أكل هو إمساك، فبطل هذا القول. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه " فلم يجعله ممسكا علينا ما بقي منه إذا كان قد أكل منه شيئا. والثالث: أنه يصير في معنى قوله: فكلوا مما قتله، من غير ذكر إمساك، إذ معلوم أن ما قد أكله لا يجوز أن يتناوله الحضر، فيؤدي ذلك إلى اسقاط فائدة ذكر إمساكه علينا. وأيضا فإنه إذا أكل منه فقد علمنا أنه إنما اصطاد لنفسه وأمسكه عليها ولم يمسكه علينا باصطياده، وتركه أكل بعضه بعد ما أكل منه ما أكل لا يكسبه في الباقي حكم الإمساك علينا، لأنه لا يجوز أن يترك أكل الباقي لأنه قد شبع ولم يحتج إليه لا لأنه أمسكه علينا، وفي أكله منه بديا دلالة على أنه لم يمسكه علينا باصطياده، وهذا الذي يجب علينا اعتباره في صحة التعليم، وهو أن يعلم أنه ينبغي أن يصطاده لنا ويمسكه علينا، فإذا أكل منه علمنا أنه لم يبلغ حد التعليم.
فإن قيل: الكلب إنما يصطاد ويمسك لنفسه لا لصاحبه، ألا ترى أنه لو كان شبعان حين أرسل لم يصطد؟ وهو إنما يضرى على الصيد بأن يطعم منه، فليس إذا في أكله منه نفي التعليم والإمساك علينا. ولو اعتبر ما ذكرتم فيه لاحتجنا إلى اعتبار نية الكلب وضميره، وذلك مما لا نعلمه ولا نقف عليه بل لا نشك أن نيته وقصده لنفسه. قيل له:
أما قولك: " إنه يصطاد ويمسك لنفسه " فليس كذلك، لأنه لو كان كذلك لما ضرب حتى يترك الأكل، ولما تعلم ذلك إذا علم، فلما كان إذا علم ترك الأكل تعلم ذلك ولم يأكل منه علمنا أنه متى ترك الأكل فهو ممسك له علينا معلم لما شرط الله تعالى من تعليمه فهو حينئذ مصطاد لصاحبه ممسك عليه، وقولك: " إنه لو كان يصطاد لصاحبه لكان يصطاد في حال الشبع " فهو يصطاد في حال الشبع لصاحبه ويمسكه عليه إذا أرسله صاحبه، وهو إذا كان معلما لم يمتنع من الاصطياد إذا أرسله. وأما قولك: " إنه يضرى على الصيد بأنه يطعم منه " فإنه إنما يطعمه منه بعد إمساكه على صاحبه، وأما ضمير الكلب ونيته فإن الكلب يعلم ما يراد منه بالتعليم فينتهي إليه، كما يعرف الفرس ما يراد منه بالزجر ورفع السوط ونحوه، والذي يعلم به ذلك من الكلب تركه للأكل ومتى أكل منه فقد علم منه أنه قصد بذلك إمساكه على نفسه دون صاحبه. ومما يدل على ما ذكرنا وأن تعليم الكلب إنما يكون بتركه الأكل، أنه معلوم أنه ألوف غير مستوحش، فلا يجوز أن يكون تعليمه ليتألف ولا يستوحش، فوجب أن يكون بتركه الأكل. والبازي من جوارح الطير هو