أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٣٤٧
بحديث الزهري عن عروة عن عائشة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء الآخرة حين يستوي الأفق، وربما أخرها حتى يجتمع الناس "، وهذا اللفظ يحتمل من المعنى ما احتمله قوله في الحديث الأول " حين اسود الأفق ".
ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روى ثور بن يزيد عن سليمان بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة، فقال: " صل معي ". فصلى في اليوم الأول لعشاء الآخرة قبل غيبوبة الشفق. قالوا:
ومعلوم أنه لم يصلها قبل غيبوبة الحمرة، فوجب أن يكون أراد البياض، ولا تكون رواية من روى أنه صلاها بعد ما غاب الشفق معارضة لحديث جابر هذا، من قبل أن معناه:
بعد ما غاب الشفق الذي هو الحمرة، إذا كان الاسم يقع عليهما جميعا ليتفق الحديثان ولا يتضادا، ومن يجعل الشفق البياض يجعل خبر جابر منسوخا على نحو ما روي في خبر ابن عباس في المواقيت أنه صلى الظهر في اليوم الثاني وقت العصر بالأمس. ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخره غيبوبة الشفق ". وفي بعض أخبار عبد الله بن عمر: " إذا غابت الشمس فهو وقت المغرب إلى أن يغيب الشفق ". وفي لفظ آخر: " وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق ". قالوا: فالواجب حمله على أولهما وهو الحمرة، ومن يقول بالبياض يجيب عن هذا بأن ظاهر ذلك يقتضي غيبوبة جميعه وهو بالبياض، فيدل ذلك على اعتبار البياض دون الحمرة، لأنه غير جائز أن يقال قد غاب الشفق إلا بعد غيبوبة جميعه، كما لا يقال غابت الشمس إلا بعد غيبوبة جميعها دون بعضها. ولمن قال بالحمرة أن يقول:
إن البياض والحمرة ليسا شفقا واحدا بل هما شفقتان، فيتناول الاسم أولهما غيبوبة، كما أن الفجر الأول والثاني هما فجران وليسا فجرا واحدا، فيتناولهما إطلاق الاسم معا كذلك الشفق. ومما يحتج به للقائلين بالبياض، حديث النعمان بن بشير: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء لسقوط القمر الليلة الثالثة "، وظاهر ذلك يقتضي غيبوبة البياض. قال أبو بكر: وهذا لا يعتمد عليه، لأن ذلك يختلف في الصيف والشتاء ولا يمتنع بقاء البياض بعد سقوط القمر في الليلة الثالثة، وجائز أن يكون قد غاب قبل سقوطه.
(٣٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 342 343 344 345 346 347 348 349 350 351 352 ... » »»