أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٢٩٥
التغليظ، وكذلك دية الخطأ ينبغي أن تعتبر فيها قيمة الإبل على أسنان الخطأ وأن لا تعتبر الدراهم والدنانير في الديات مقدرا محدودا، فلا يقال إن الدية من الدراهم عشرة آلاف ولا اثنا عشر ألفا ولا من الذهب ألف دينار، بل ينظر في سائر الأزمان إلى قيمة الإبل فإن كانت ستة آلاف أوجب ذلك من الدراهم بغير زيادة، وإن كان خمسة عشر ألفا أوجب ذلك، وكذلك قيمتها من الدنانير. فلما قال السلف في الدية أحد قولين إما عشرة آلاف وإما اثنا عشر ألفا وقالوا إنها من الدنانير ألف دينار، حصل الاتفاق من الجميع على أن الزيادة على هذه المقادير والنقصان منها غير سائغ، وفي ذلك دليل على أن الدراهم والدنانير هي ديات بأنفسها لا بدلا من غيرها، وإذا كان كذلك لم يجز التغليظ فيها من وجهين، أحدهما: أن إثبات التغليظ طريقه التوقيف أو الاتفاق، ولا توقيف في إثبات التغليظ في الدراهم والدنانير ولا اتفاق. والثاني: أن التغليظ في الإبل إنما هو من جهة الأسنان لا من جهة زيادة العدد، وفي إثبات التغليظ من جهة زيادة الوزن في الورق والذهب خروج عن الأصول. ووجه آخر يدل على أن الدراهم والدنانير ليست على وجه القيمة عن الإبل، وهو أنه معلوم أن القاضي يقضي على العاقلة إذا كانت من أهل الورق بالورق، وإذا كانت من أهل الذهب بالدنانير، فلو كانت الإبل هي الواجبة والدراهم والدنانير بدل منها لما جاز أن يقضي القاضي فيها بالدراهم والدنانير على أن تؤديها في ثلاث سنين، لأنه دين بدين، فلما جاز ذلك دل على أنها ديات بأنفسها ليست أبدا لا عن غيرها. ويدل على أن التغليظ غير جائز في الدراهم والدنانير أن عمر رضي الله عنه جعل الدية من الذهب ألف دينار ومن الورق ما اختلف عنه فيه، فروى عنه أهل المدينة: " اثنا عشر ألفا " وروى عنه أهل العراق " عشرة آلاف " ولم يفرق في ذلك بين دية شبه العمد والخطأ، وذلك بمحضر من الصحابة من غير خلاف من أحد منهم عليه، فدل على أن اعتبار التغليظ فيها ساقط، ويدل عليه أيضا أن الصحابة قد اختلفت في كيفية التغليظ في أسنان الإبل لما كان التغليظ فيها واجبا، ولو كان التغليظ في الورق والذهب واجبا لاختلفوا فيه حسب اختلافهم في الإبل، فلما لم يذكر عنهم خلاف في ذلك وإنما روي عنهم في الذهب ألف دينار وفي الدراهم عشرة آلاف أو اثنا عشر ألفا من غير زيادة ولا نقصان، ثبت بإجماعهم على ذلك نفي التغليظ في غير الإبل.
فإن قيل على ما ذكرنا من الأصول لو كان من الإبل لكان قضاء القاضي عليهم بالدية من الدراهم يوجب أن يكون دينا بدين: إن هذا كما يقولون فيمن تزوج امرأة على عبد وسط " إنه إن جاء بالقيمة دراهم قبلت منه " ولم يكن ذلك بيع دين بدين. قيل له:
القاضي عندنا لا يقضي عليه بالدراهم إذا تزوجها على عبد ولكنه يقول له: " إن شئت
(٢٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 290 291 292 293 294 295 296 297 298 299 300 ... » »»