أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٢٠٦
نكاح الكتابيات نازلا بعده فيكون مستعملا أيضا، أو أن يكون حظر نكاح المشركات متأخرا عن إباحة نكاح الكتابيات، فإن كان كذلك فإنه ورد مرتبا على إباحة نكاح الكتابيات، فالإباحة مستعملة في الأحوال كلها كيف تصرف الحال. وعلى أنه لا خلاف أن قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) [المائدة: 5] نزل بعد تحريمه نكاح المشركات، لأن آية تحريم المشركات في سورة البقرة، وإباحة نكاح الكتابيات في سورة المائدة وهي نزلت بعدها، فهي قاضية على تحريم المشركات إن كان إطلاق اسم المشركات يتناول الكتابيات. ثم لما تفرق الآية المبيحة لنكاح الكتابيات بين الحرائر منهن وبين الإماء واقتضى عمومها الفريقين منهن، وجب استعمالها فيهما جميعا وأن لا يعترض بتحريم نكاح المشركات عليهن كما لم يجز الاعتراض به على الحرائر منهن. وأما تخصيص الله تعالى المؤمنات من الإماء في قوله: (من فتياتكم المؤمنات) فقد بينا في المسألة المتقدمة أن التخصيص بالذكر لا يدل على أن ما عدا المخصوص حكمه بخلافه.
فإن قيل: لا يصح الاحتجاج بقوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) [المائدة: 5] في إباحة النكاح، وذلك لأن الإحصان اسم مشترك يتناول معاني مختلفة، وليس بعموم فيجري على مقتضى لفظه بل هو مجمل موقوف الحكم على البيان، فما ورد به البيان من توقيف أو اتفاق صرنا إليه وكان حكم الآية مقصورا عليه، وما لم يرد به بيان فهو على إجماله لا يصح الاحتجاج بعمومه، فلما اتفق الجميع على أن الحرائر من الكتابيات مرادات به استعملنا حكم الآية فيهن، ولما لم تقم الدلالة على إرادة الإماء الكتابيات احتجنا في إثباتها إلى دليل من غيرها. قيل له: لما روي عن جماعة من السلف في قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] أنهن العفائف منهن، إذا كان اسم الإحصان يقع على العفة، وجب اعتبار عموم اللفظ في جميع العفائف، إذ قد ثبت أن العفة مرادة بهذا الإحصان، وما عدا ذلك من ضروب الإحصان لم تقم الدلالة على أنها مرادة. وقد اتفقوا على أنه ليس من شرط هذا الإحصان استكمال شرائطه كلها، فما وقع عليه الاسم واتفق الجميع أنه مراد أثبتناه، وما عداه يحتاج مثبته شرطا في الإباحة إلى دلالة.
فإن قيل: اسم الإحصان يقع على الحرية، فما أنكرت أن يكون المراد بقوله:
(والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) [المائدة: 5] الحرائر منهن؟ قيل له:
لما كان معلوما أنه لم يرد بذكر الإحصان في هذا الموضع استيفاء شرائطه، لم يجز لأحد أن يقتصر بمعنى الإحصان فيه على بعض ما يقع عليه الاسم دون بعض، بل إذا تناوله
(٢٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 201 202 203 204 205 206 207 208 209 210 211 ... » »»