أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٢١٧
صاحبه؟ قيل له: كل ما أباحه الله تعالى من العقود وأطلقه من جواز أكل مال الغير بإباحته إياه فخارج عن حكم الآية، لأن الحضر في أكل المال مقيد بشريطة وهي أن يكون أكل مال بالباطل، وما أباحه الله تعالى وأحله فليس بباطل بل هو حق، فنحتاج أن ننظر إلى السبب الذي يستبيح أكل هذا المال، فإن كان مباحا فليس بباطل ولم تتناوله الآية، وإن كان محظورا فقد اقتضته الآية.
وأما قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) اقتضى إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض. والتجارة اسم واقع على عقود المعاوضات المقصود بها طلب الأرباح، قال الله تعالى: (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله) [الصف: 10 و 11] فسمى الإيمان تجارة على وجه المجاز تشبيها بالتجارات المقصود بها الأرباح. وقال تعالى: (يرجون تجارة لن تبور [فاطر: 29].
كما سمى بذل النفوس لجهاد أعداء الله تعالى شرى، قال الله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله) [التوبة: 111] فسمى بذل النفوس شراء على وجه المجاز. وقال الله تعالى: (لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) [البقرة: 102] فسمى ذلك بيعا وشراء على وجه المجاز تشبيها بعقود الأشرية والبياعات التي تحصل بها الأعواض. كذلك سمى الإيمان بالله تعالى تجارة لما استحق به من الثواب الجزيل والأبدال الجسيمة، فتدخل في قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) عقود البياعات والإجارات والهبات المشروطة فيها الأعواض، لأن المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الأعواض لا غير.
ولا يسمى النكاح تجارة في العرف والعادة، إذ ليس المبتغى منه في الأكثر الأعم تحصيل العوض الذي هو مهر، وإنما المبتغى فيه أحوال الزوج من الصلاح والعقل والدين والشرف والجاه ونحو ذلك، فلم يسم تجارة لهذا المعنى، وكذلك الخلع والعتق على مال ليس يكاد يسمى شئ من ذلك تجارة. ولما ذكرنا من اختصاص اسم التجارة بما وصفنا، قال أبو حنيفة ومحمد: " إن المأذون له في التجارة لا يزوج أمته ولا عبده ولا يكاتب ولا يعتق على مال ولا يتزوج هو أيضا وإن كانت أمة لا تزوج نفسها، لأن تصرفه مقصور على التجارة وليست هذه العقود من التجارة "، وقالوا: " إنه يؤاجر نفسه وعبيده وما في يده من أموال التجارة، إذ كانت الإجارة من التجارة "، وكذلك قالوا في المضارب وشريك العنان، لأن تصرفهما مقصور على التجارة دون غيرها. ولم يختلف الناس أن البيوع من التجارات.
(٢١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 212 213 214 215 216 217 218 219 220 221 222 ... » »»