أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٢٠٢
بكر: قوله: " لا يحتمل التأويل " خلاف الاجماع، وذلك لأن الصحابة قد اختلفوا فيه، وقد حكينا أقاويلهم، ولولا خشية الإطالة لذكرنا أسانيدها، ولو كان لا يحتمل التأويل لما قال به من قال من السلف إذ غير جائز لأحد تأويل آية على معنى لا تحتمله، وقد ظهر هذا الاختلاف في السلف فلم ينكر بعضهم على بعض القول فيها على الوجوه التي اختلفوا فيها، ولو كان هذا القول غير محتمل ولا يسوغ التأويل فيه لأنكره من لم يقل به منهم على قائليه، فإذا كان هذا القول مستفيضا فيهم من غير نكير ظهر من أحد منهم على قائليه فقد حصل بإجماعهم تسويغ الاجتهاد فيه واحتمال الآية للتأويل الذي تأولته، فقد بان بما وصفنا أن إنكاره لاحتمال التأويل غير صحيح. وأما قوله: " إنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أبيحت " فإنه لا يخلو من أن يريد أنه محظور فيه نصا أو دليلا فإن ادعى نصا طولب بتلاوته وإظهاره ولا سبيل له إلى ذلك، وإن ادعى على ذلك دليلا طولب بإيجاده وذلك معدوم، فلم يحصل من قوله إلا على هذه الدعوى لنفسه والتعجب من قول خصمه، اللهم إلا أن يزعم أن تخصيصه الإباحة بهذه الحال والشرط دليل على حظر ما عداه، فإن كان إلى هذا ذهب فإن هذا دليل يحتاج إلى دليل، وما نعلم أحدا استدل بمثله قبل الشافعي، ولو كان هذا دليلا لكانت الصحابة أولى بالسبق إلى الاستدلال به في هذه المسألة ونظائرها من المسائل مع كثرة ما اختلفوا فيه من احكام الحوادث التي لم يخل كثير منها من إمكان الاستدلال عليها بهذا الضرب كما استدلوا عليها بالقياس والاجتهاد وسائر ضروب الدلالات، وفي تركهم الاستدلال بمثله دليل على أن ذلك لم يكن عندهم دليلا على شئ، فإذا لم يحصل إسماعيل من قوله: " هو محظور في الكتاب " على حجة ولا شبهة. وقد حكى داود الأصبهاني أن إسماعيل سئل عن النص ما هو؟ فقال: النص ما اتفقوا عليه، فقيل له: فكل ما اختلفوا فيه من الكتاب فليس بنص؟
فقال: القرآن كله نص، فقيل له: فلم اختلف أصحاب محمد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن كله نص؟
فقال داود: ظلمه السائل، ليس مثله يسأل عن هذه المسألة، هو أقل من أن يبلغ علمه هذا الموضع. فإن كانت حكاية داود عنه صحيحة فإن ذلك لا يليق بإنكاره على القائلين بإباحة نكاح الأمة مع إمكان تزوج الحرة، لأنه حكي عنه أنه قال مرة: " ما اتفقوا عليه فهو نص " وقال مرة: " القرآن كله نص "، وليس في القرآن ما يخالف قولنا ولا اتفقت الأمة أيضا على خلافه. وفي حكاية داود هذا عن إسماعيل عهدة، وهو غير أمين ولا ثقة فيما يحكيه وغير مصدق على إسماعيل خاصة لأنه كان نفاه من بغداد وقذفه بالعظائم، وما أظن تعجب إسماعيل من قولنا إلا من جهة أنه كان يعتقد في مثله أنه دلالة
(٢٠٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 197 198 199 200 201 202 203 204 205 206 207 ... » »»