أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ١٧٢
فإن قيل: فقد روى ابن عباس في أمر بريرة ما روى، ثم قال بعد ذلك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بيع الأمة طلاقها " فينبغي أن يقضي قوله هذا على ما رواه، لأنه لا يجوز أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه. قيل له: قد روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في السبايا وأن بيع الأمة لا يوقع فرقة بينها وبين زوجها، فجائز أن يكون الذي ذكرت عنه من أن بيع الأمة طلاقها كان يقول قبل أن تثبت عنده قصة بريرة وتخيير النبي صلى الله عليه وسلم إياها بعد الشرى، فلما سمع بقصة بريرة رجع عن قوله. وأيضا يحتمل أن يريد بقوله: " بيع الأمة طلاقها " إذا اشتراها الزوج ولا يبقى النكاح مع الملك. والنظر يدل على أن بيع الأمة ليس بطلاق ولا يوجب الفرقة، وذلك لأن الطلاق لا يملكه غير الزوج ولا يصح إلا بإيقاعه أو بسبب من قبله، فلما لم يكن من الزوج في ذلك سبب وجب أن لا يكون طلاقا. ويدل أيضا على ذلك أن ملك اليمين لا ينافي النكاح، لأن الملك موجود قبل البيع غير ناف للنكاح، فكذلك ملك المشتري لا ينافيه.
فإن قيل: لما طرأ ملك المشتري ولم يكن منه رضى بالنكاح وجب أن ينفسخ. قيل له: هذا غلط، لأنه قد ثبت أن الملك لا ينافي النكاح، والمعنى الذي ذكرت إن كان معتبرا فإنما يوجب للمشتري خيارا في فسخ النكاح، وليس هذا قول أحد، لأن عبد الله بن مسعود ومن تابعه يوجبون فسخ النكاح بحدوث الملك.
مطلب: في حكم الزوجين الحربيين إذا سبيا معا واختلف الفقهاء في الزوجين إذا سبيا معا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: " إذا سبى الحربيان معا وهما زوجان فهما على النكاح، وإن سبي أحدهما قبل الآخر وأخرج إلى دار الاسلام فقد وقعت الفرقة "، وهو قول الثوري. وقال الأوزاعي:
" إذا سبيا جميعا فما كانا في المقاسم فهما على النكاح، فإذا اشتراهما رجل فإن شاء جمع بينهما وإن شاء فرق بينهما فاتخذها لنفسه أو زوجها غيره بعد ما يستبرئها بحيضة "، وهو قول الليث بن سعد. وقال الحسن بن صالح: " إذا سبيت ذات زوج استبرئت بحيضتين، لأن زوجها أحق بها إذا جاء في عدتها، وغير ذات الأزواج بحيضة ". وقال مالك والشافعي: " إذا سبيت بانت من زوجها سواء كان معها زوجها أو لم يكن ".
قال أبو بكر: قد ثبت أن حدوث الملك غير موجب للفرقة، بدلالة الأمة المبيعة والموروثة، فوجب أن لا تقع الفرقة بالسبي نفسه، لأنه ليس فيه أكثر من حدوث الملك.
ودليل آخر، وهو أن حدوث الرق عليها لا يمنع ابتداء العقد، فلأن لا يمنع بقاءه أولى، لأن البقاء هو آكد في ثبوت النكاح معه من الابتداء، ألا ترى أنه قد يمنع الابتداء ما لا يمنع البقاء وهو حدوث العدة عليها من وطء بشبهة يمنع ابتداء العقد ولا يمنع بقاء العقد
(١٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 167 168 169 170 171 172 173 174 175 176 177 ... » »»