أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ١٨٣
الإحصان المذكور هو ضد الزنا وهو العفة، وإذا كان المراد بالإحصان في هذا الموضع العفاف فقد حصل على وجه لا يكون مجملا، لأن تقديره: وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم عفة غير زنا، وهذا لفظ ظاهر المعنى بين المراد، فيوجب ذلك معنيين، أحدهما: إطلاق لفظ الإباحة وكونه عموما، والآخر: الإخبار بأنهم إذا فعلوا ذلك كانوا محصنين غير مسافحين، والإحصان لفظ مشترك متى أطلق لم يكن عموما كسائر الألفاظ المشتركة، وذلك لأنه اسم يقع على معان مختلفة وأصله المنع ومنه سمي الحصن لمنعه من صار فيه من أعدائه، ومنه الدرع الحصينة أي المنيعة، والحصان بالكسر الفحل من الأفراس لمنعه راكبه من الهلاك، والحصان بالنصب العفيفة من النساء لمنعها فرجها من الفساد، قال حسان في عائشة رضي الله عنهما:
حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثي من لحوم الغوافل وقال الله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات) [النور: 23] يعني العفائف. والإحصان في الشرع اسم يقع على معان مختلفة غير ما كان الاسم لها في اللغة، فمنها الاسلام، قال الله تعالى: (فإذا أحصن)، روى: فإذا أسلمن، ويقع على التزويج، لأنه قد روي في التفسير أيضا أن معناه: فإذا تزوجن. وقال تعالى:
(والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) ومعناه: ذوات الأزواج. ويقع على العفة في قوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات) [النور: 23]. ويقع على الوطء بنكاح صحيح في إحصان الرجم. والإحصان في الشرع يتعلق به حكمان، أحدهما: في إيجاب الحد على قاذفه في قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4] فهذا يعتبر فيه العفاف والحرية والإسلام والعقل والبلوغ، فما لم يكن على هذه الصفة لم يجب على قاذفه الحد، لأنه لا حد على قاذف المجنون والصبي الزاني والكافر والعبد، فهذه الوجوه من الإحصان معتبرة في إيجاب الحد على القاذف. والحكم الآخر هو الإحصان الذي يتعلق به إيجاب الرجم إذا زنا، وهذا الإحصان يشتمل على الاسلام والعقل والبلوغ والحرية والنكاح الصحيح مع الدخول بها وهما على هذه الصفة، فإن عدم شئ من هذه الخلال لم يكن عليه الرجم إذا زنا. والسفاح هو الزنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنا من نكاح ولست من سفاح ". وقال مجاهد والسدي في قوله تعالى: (غير مسافحين) قالا: " غير زانين ". ويقال إن أصله من سفح الماء وهو صبه، ويقال: سفح دمعه وسفح دم فلان وسفح الجبل أسفله، لأنه موضع مصب الماء، وسافح الرجل إذا زنا، لأنه صب ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب ووجوب العدة وسائر أحكام النكاح، فسمي مسافحا لأنه لم يكن له من فعله هذا غير صب الماء، وقد أفاد ذلك نفي نسب
(١٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 188 ... » »»