تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١٨ - الصفحة ٣٢٧
والحق أن قوله: (وجعلناكم شعوبا وقبائل) إن كان ظاهرا في ذم التفاخر بالأنساب فأول الوجهين أوجه، وإلا فالثاني لكونه أعم وأشمل.
وقوله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) استئناف مبين لما فيه الكرامة عند الله سبحانه، وذلك أنه نبههم في صدر الآية على أن الناس بما هم ناس يساوي بعضهم بعضا لا اختلاف بينهم ولا فضل لأحدهم على غيره، وأن الاختلاف المترائي في الخلقة من حيث الشعوب والقبائل إنما هو للتوصل به إلى تعارفهم ليقوم به الاجتماع المنعقد بينهم إذ لا يتم ائتلاف ولا تعاون وتعاضد من غير تعرف فهذا هو غرض الخلقة من الاختلاف المجعول لا أن تتفاخروا بالأنساب وتتفاضلوا بأمثال البياض والسواد فيستعبد بذلك بعضهم بعضا ويستخدم إنسان إنسانا ويستعلي قوم على قوم فينجر إلى ظهور الفساد في البر والبحر وهلاك الحرث والنسل فينقلب الدواء داء.
ثم نبه سبحانه في ذيل الآية بهذه الجملة أعني قوله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) على ما فيه الكرامة عنده، وهي حقيقة الكرامة.
وذلك أن الانسان مجبول على طلب ما يتميز به من غيره ويختص به من بين أقرانه من شرف وكرامة، وعامة الناس لتعلقهم بالحياة الدنيا يرون الشرف والكرامة في مزايا الحياة المادية من مال وجمال ونسب وحسب وغير ذلك فيبذلون جل جهدهم في طلبها واقتنائها ليتفاخروا بها ويستعلوا على غيرهم.
وهذه مزايا وهمية لا تجلب لهم شيئا من الشرف والكرامة دون أن توقعهم في مهابط الهلكة والشقوة، والشرف الحقيقي هو الذي يؤدي الانسان إلى سعادته الحقيقية وهو الحياة الطيبة الأبدية في جوار رب العزة وهذا الشرف والكرامة هو بتقوى الله سبحانه وهي الوسيلة الوحيدة إلى سعادة الدار الآخرة، وتتبعها سعادة الدنيا قال تعالى: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) الأنفال: 67، وقال: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) البقرة: 197، وإذا كانت الكرامة بالتقوى فأكرم الناس عند الله أتقاهم كما قال تعالى.
وهذه البغية والغاية التي اختارها الله بعلمه غاية للناس لا تزاحم فيها ولا تدافع بين المتلبسين بها على خلاف الغايات والكرامات التي يتخذها الناس بحسب أو هامهم
(٣٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 322 323 324 325 326 327 328 329 330 331 332 ... » »»
الفهرست