غير أن الانسان يفارق سائر الأنواع الحيوانية والنباتية وغيرها فيما نعلم في أمر (1) وهو أنه لسعة حاجته التكوينية وكثرة نواقصه الوجودية لا يقدر على تتميم نواقصه الوجودية ورفع حوائجه الحيوية وحده بمعنى أن الواحد من الانسان لا تتم له حياته الانسانية وهو وحده بل يحتاج إلى اجتماع منزلي ثم اجتماع مدني يجتمع فيه مع غيره بالازدواج والتعاون والتعاضد فيسعى الكل بجميع قواهم التي جهزوا بها للكل ثم يقسم الحاصل من عملهم بين الكل فيذهب كل بنصيبه على قدر زنته الاجتماعية.
وقد عرفت في سابق مباحث هذا الكتاب أن المدنية ليست بطبيعية للانسان بمعنى أن ينبعث إليه من ناحية طبيعته الانسانية ابتداء بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلا فهو يستخدم الأمور الطبيعية ثم أقسام النبات والحيوان في سبيل مقاصده الحيوية فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجرأ لكنه يجد سائر الافراد أمثاله في الأميال والمقاصد وفى الجهازات والقوى فيضطر إلى المسالمة وأن يسلم لهم حقوقا مثل ما يراه لنفسه.
وينتهي هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاوني ثم يقسم الحاصل من الأعمال بين الجميع ويعطى منه لكل ما يستحقه.
وكيف كان فالمجتمع الانساني لا يتم انعقاده ولا يعمر الا بأصول علمية وقوانين اجتماعية يحترمها الكل وحافظ يحفظها من الضيعة ويجريها في المجتمع وعند ذلك تطيب لهم العيشة وتشرف عليهم السعادة.
أما الأصول العلمية فهي معرفته اجمالا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة وما عليه الانسان من حيث البداية والنهاية، فان المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الانسان أنه مادي محض ليس له من الحياة الا الحياة المعجلة المؤجلة بالموت وأن ليس في دار الوجود الا السبب المادي الكائن الفاسد ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤديهم إلى اللذائذ المحسوسة والكمالات المادية ما وراءها شئ.