ولم يقيد سبحانه النهى عن تولية الادبار بأنه يجب ان يكون عن جبن أو لغرض الخذلان، ولا استثنى من حكم التحريم كون الفرار عن اضطراب مفاجئ، ولا اورد في استثنائه إلا ما ذكره بقوله: (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) وليس هذان المستثنيان في الحقيقة من الفرار من الزحف.
ولم يورد تعالى أيضا فيما حكى من عهدهم شيئا من الاستثناء إذ قال: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسؤولا) الأحزاب: 15.
وأما استشهاده على ذلك بان الاضطراب كان مشتركا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستدلاله على ذلك بقوله تعالى: (ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) حيث إن نزول السكينة بعد انكشافهم بزمان - على ما تدل عليه كلمة ثم - يلازم نزول الاضطراب عند ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان عن حزن وأسف إذ لا يتصور في حقه صلى الله عليه وآله وسلم التزلزل في ثباته وشجاعته.
فلننظر فيما اعتبره للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحزن والأسف هل كان ذلك حزنا وأسفا على ما وقع من الامر من انهزام المسلمين وما ابتلاهم الله به من الفتنة والمحنة جزاء لما أعجبوا من كثرة عددهم، وبالجملة حزنا مكروها عند الله؟ فقد نزهه الله عن ذلك وأدبه بما نزل عليه من كتابه وعلمه من علمه، وقد أنزل عليه مثل قوله عز من قائل: (ليس لك من الامر شئ) آل عمران: 128، وقال: (سنقرؤك فلا تنسى) الاعلى: 6.
ولم يرد في شئ من روايات القصة أنه صلى الله عليه وآله وسلم زال عن مكانه يومئذ أو اضطرب اضطرابا مما نزل على المسلمين من الوهن والانهزام.
وإن كان ذلك حزنا وأسفا على المسلمين لما أصابهم من ناحية خطاهم في الاعتماد بغير الله والركون إلى سراب الأسباب الظاهرة، والذهول عن الاعتصام بالله سبحانه حتى أوقعهم في خطيئة الفرار من الزحف لما كان هو صلى الله عليه وآله وسلم عليه من الرأفة والرحمة بالمؤمنين فهذا أمر يحبه الله سبحانه وقد مدح رسوله صلى الله عليه وآله وعليه به إذ قال: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة: 128.
وليس يزول مثل هذا الأسف والحزن بنزول السكينة عليه، ولا أن السكينة لو فرض نزولها لأجله مما حدث بعد وقوع الانهزام حتى يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاليا عنها