مقدماتها ويبنى حياته على التعليم والتربية، وعلى تقديم الأسباب طمعا في مسبباتها سواء اعترف بالصانع أو لم يعترف، ولا يتم له شئ من ذلك إلا عن إذعان فطري بأصل العلية والمعلولية، ولو أجازت الفطرة الانسانية بطلان ذلك وجريان الحوادث على مجرد الاتفاق اختل نظام حياته ببطلان سعيه الفكري والعملي، وانسد طريق إثبات سبب ما فوق طبيعة الحوادث.
على أن الكتاب العزيز يجري في بياناته على تصديق أصل العلية والمعلولية، وينسب كل حسنة إليه تعالى وينفي استناد السيئات والمعاصي إليه ويسميه بكل اسم أحسن ويصفه بكل وصف جميل، وينفي عنه كل هزل وعبث ولغو ولهو وجزاف، ولا يتم شئ من ذلك إلا على أصل العلية والمعلولية، وقد تقدم في الأبحاث السابقة ما يتبين به ذلك كله.
وقد ذهب طائفة من الماديين وخاصة أصحاب المادية المتحولة إلى عين ما ذهب إليه الأشاعرة من ثبوت الجبر ونفي الاختيار عن الافعال الانسانية، وانما الفارق بين قولي الطائفتين هو ان الأشاعرة بنوا ذلك على سببية الواجب تعالى المنحصرة واستنتجوا من ذلك بطلان السببية الاختيارية وانتفاءها عن الانسان، والماديون بنوه على معلولية الفعال الانسانية لمجموع الحوادث الحتفة بالفعل التي هي علة حدوثه، ولا معنى للعلية الا بالايجاب، فالانسان موجب في فعله مجبر عليه.
وقد فات منهم ان الذي نسبة المعلول إليه بالايجاب انما هو العلة التامة، وهى مجموع الحوادث المتقدمة على المعلول التي لا يتوقف هو في وجوده على شئ وراءها، وبوجودها جميعا لا يبقى له إلا ان يوجد، وأما بعض اجزاء العلة التامة فإنما نسبة المعلول إليه بالامكان لا بالوجوب لتوقف وجوده على أشياء أخر وراءه فلا يتحقق بوجود الجزء المفروض جميع ما يتوقف عليه وجوده حتى يعود واجبا وجوده.
الافعال الانسانية يتوقف في وجودها على الانسان وارادته وعلى أمور غير محصورة أخرى من المادة والشرائط الزمانية والمكانية فهى إذا نسبت إليها جميعا كانت النسبة الحاصلة نسبة الوجوب والضرورة، وأما إذا نسبت إلى الانسان وحده أو إلى الانسان المريد فقد نسبت إلى جزء العلة التامة وعادت النسبة إلى الامكان دون الوجوب، فالافعال الإرادية الانسانية اختيارية أي انه يمكنه ان يفعل وان لا يفعل فان فعل