من الوجود المتوقف إلى فاعل موجد، وهذا المعنى كما يقوم بالفاعل المباشر كذلك يقوم بعين هذا القيام بفاعل الفاعل.
واعتبار هذه النكتة هو الذي أوجب لهم ان يميزوا بين الأعمال وينسبوا بعضها إلى الفاعل القريب والبعيد معا، ولا ينسبوا بعضها إلا إلى الفاعل القريب المباشر للعمل فما كان منها يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة والاتصال بالعمل كالاكل بمعنى الالتقام والبلع والشرب بمعنى المص والتجرع والقعود بمعنى الجلوس ونحو ذلك لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر فإذا أمر السيد خادمه ان يأكل غذاء كذا ويشرب شرابا كذا ويقعد على كرسي كذا، قيل: أكل الخادم وشرب وقعد ولا يقال: أكله سيده وشربه وقعد عليه، وإنما يقال: تصرف في كذا إذا استعمل كذا أو أنفق كذا ونحو ذلك لما ذكرناه.
وأما الأعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة والحركات المادية التي تقوم بالفاعل المباشر للحركة كالقتل والأسر والاحياء والإماتة والاعطاء والاحسان والاكرام ونظائر ذلك فإنها تنسب إلى الفاعل القريب والبعيد على السوية بل ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب كما إذا كان الفاعل البعيد أقوى وجودا وأشد سلطة وإحاطة.
فهذا ما ينتجه البحث العقلي ويجرى عليه الانسان بفهمه الغريزى، والقرآن الكريم يصدق ذلك أوضح تصديق كقوله تعالى في الآيات السابقة: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم) الآيتان. حيث نسب التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه بجعل أيديهم بمنزلة الآلة.
ونظيره قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: 96 فان المراد بما تعملون إما الأصنام التي كانوا يعملونها من الحجارة أو الأخشاب أو الفلزات فإنما أريد به المادة بما عليها من عمل الانسان ففيه نسبة الخلق إلى الأعمال كنسبته إلى فواعلها، وأما نفس الأعمال فالامر أوضح.
ويقرب من ذلك قوله تعالى: (وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون)