الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ١٢٩
لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا
____________________
جفاء وقوة، أو في أفعالهم جفاء وخشونة لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له والانتقام من أعدائه (ما أمرهم) في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله: أي أمره كقوله تعالى - أفعصيت أمري - أو لا يعصونه فيما أمرهم. فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا فإن معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه.
فإن قلت: قد خاطب الله المشركين المكذبين بالوحي بهذا بعينه في قوله تعالى - فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة - وقال - أعدت للكافرين - فجعلها معدة للكافرين فما معنى مخاطبته به المؤمنين؟ قلت: الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار فإنهم مساكنون الكفار في دار واحدة، فقيل للذين آمنوا قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الكفار الذين أعدت لهم هذه النار الموصوفة. ويجوز أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد والندم على الدخول في الإسلام، وأن يكون خطابا للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون، ويعضد ذلك قوله تعالى على أثره (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون) أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار: لا تعتذروا لأنه لا عذر لكم أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار (توبة نصوحا) وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازى، والنصح صفة التائبين وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فيأتوا بها على طريقها متداركة للفرطات ماحية للسيئات، وذلك أن يتوبوا عن القبائح لقبحها نادمين عليها مغتمين أشد الاغتمام لارتكابها عازمين على أنهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللبن في الضرع موطنين أنفسهم على ذلك. وعن علي رضى الله تعالى عنه أنه سمع أعرابيا يقول: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فقال: يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين، قال: وما التوبة؟ قال: يجمها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض الإعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي. وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه. وعن شهر به حوشب: أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار. وعن ابن السماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك، وقيل توبة لا يتاب منها.
وعن السدى: لا تصح التوبة إلا بنصيحة النفس والمؤمنين، لأن من صحت توبته أحب أن يكون الناس مثله.
(١٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 124 125 126 127 128 129 130 131 132 133 134 ... » »»