الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ١٣٤
ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور. الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت
____________________
خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه، والمعنى: خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون (ليبلوكم) وسمى علم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهى الخبرة استعارة من فعل المختبر، ونحوه قوله تعالى - ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم - فإن قلت: من أين تعلق قوله (أيكم أحسن عملا) بفعل البلوى؟ قلت: من حيث إنه تضمن معنى العلم فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملا، وإذا قلت: علمته أزيد أحسن عملا أم هو، كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه كما تقول: علمته هو أحسن عملا. فإن قلت: أتسمى هذا تعليقا؟ قلت: لا إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسد المفعولين جميعا كقولك: علمت أيهما عمرو وعلمت أزيد منطلق، ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدرا بحرف الاستفهام وغير مصدر به ولو كان تعليقا لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك: علمت أزيد منطلق وعلمت زيدا منطلقا أحسن عملا. قيل أخلصه وأصوبه لأنه إذا كان خالصا غير صواب لم يقبل وكذلك إذا كان صوابا غير خالص: فالخالص أن يكون لوجه الله تعالى، والصواب أن يكون على السنة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه تلاها فلما بلغ قوله - أيكم أحسن عملا - قال:
أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله " يعنى أيكم أتم عقلا عن الله وفهما لأغراضه. والمراد أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وتستمكنون منه، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، لأنه وراءه العبث والجزاء الذي لابد منه. وقدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم (وهو العزيز) الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل (الغفور) لمن تاب من أهل الإساءة (طباقا) مطابقة بعضها فوق بعض، من طابق النعل إذا خصفها طبقا على طبق وهذا وصف بالمصدر، أو على ذات طباق أو على طوبقت طباقا (من تفاوت) وقرئ من تفوت، ومعنى البناءين واحد كقولهم: تظاهروا من نسائهم وتظهروا وتعاهدته وتعهدته:
أي من اختلاف واضطراب في الخلقة، ولا تناقض إنما هي مستوية مستقيمة، وحقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشئ يفوت بعضا ولا يلائمه، ومنه قولهم خلق متفاوت وفى نقيضه متناصف. فإن قلت: كيف موقع هذه الجملة مما قبلها؟ قلت: هي صفة مشايعة لقوله - طباقا - وأصلها ما ترى فيهن من تفاوت، فوضع مكان الضمير قوله خلق الرحمن تعظيما لخلقهن وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت وهو أنه خلق الرحمن، وأنه يباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب، والخطاب في ما ترى للرسول أو لكل مخاطب، وقوله تعالى
(١٣٤)
مفاتيح البحث: العزّة (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 129 130 131 132 133 134 135 136 137 138 139 ... » »»