الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٤٠٩
ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون.
____________________
ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا شئ من ذلك ولكن فهمه وقع أول شئ وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه إلا أجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل ولا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإن أكثره وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما، وما أتى الزالون إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره لما خفى عليهم أن العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه، إذ لا يحل عقدها المؤربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة والوجوه الرثة، لأن من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير ولا يعرف قبيلا منه من دبير. والمراد بالأرض الأرضون السبع، يشهد لذلك شاهدان قوله جميعا وقوله والسماوات، ولأن الموضع موضع تفخيم وتعظيم فهو مقتض للمبالغة، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكده قبل محبئ الخبر ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ولكن عن الأراضي كلهن. والقبضة: المرة من القبض - فقبضت قبضة من أثر الرسول - والقبضة بالضم: المقدار المقبوض بالكف، ويقال أيضا أعطني قبضة من كذا تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر كما روى أنه نهى عن خطفة السبع، وكلا المعنيين محتمل؛ والمعنى: والأرضون جميعا قبضة: أي ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة: يعنى أن الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة كما تقول الجزور أكلة لقمان والفلة جرعته: أي ذات أكلته وذات جرعته، تريد أنهما لا يفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته وجرعة فردة من جرعاته، وإذا أريد معنى القبضة فظاهر لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة. فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ قبضته بالنصب؟ قلت: جعلها ظرفا مشبها للمؤقت بالمبهم. مطويات من الطي الذي هو ضد النشر كما قال تعالى - يوم نطوى السماء كطي السجل للكتاب - وعادة طاوى السجل أن يطويه بيمينه. وقيل قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع وبيمينه بقدرته. وقيل مطويات بيمينه: مفنيات بقسمه لأنه أقسم أن يفنيها، ومن اشتم رائحة من علمنا هذا فليعرض عليه هذا التأويل ليتلهى بالتعجب منه ومن قائله ثم يبكى حمية لكلام الله المعجز بفصاحته وما منى به من أمثاله وأثقل منه على الروح وأصدع للكبد تدوين العلماء قوله واستحسانهم له وحكايته على فروع المنابر واستجلاب الاهتزاز به من السامعين. وقرئ مطويات على نظم السماوات في حكم الأرض ودخولها تحت القبضة ونصب مطويات على الحال (سبحانه وتعالى) ما أبعد من هذه قدرته وعظمته وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء. فإن قلت: (أخرى) ما محلها من الإعراب. قلت: يحتمل الرفع والنصب. أما الرفع فعلى قوله - فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة - وأما النصب فعلى قراءة من قرأ نفخة واحدة؛ والمعنى: ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه أخرى، وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان. وقرئ قياما
(٤٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 404 405 406 407 408 409 410 411 412 413 414 ... » »»