الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢٠١
إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين
____________________
على ما فيها، أو هو معطوف على نوحا وإذ ظرف لأرسلنا: يعني أرسلناه حين بلغ من السن والعلم مبلغا صلح فيه لان يعظ قومه وينصحهم ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رحمهما الله وإبراهيم بالرفع على معنى ومن المرسلين إبراهيم (إن كنتم تعلمون) يعني إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم وإن نظرتم بعين الدراية المبصرة دون عين الجهل العمياء علمتم أنه خير لكم. وقرئ تخلقون من خلق بمعنى التكثير في خلق وتخلقون من تخلق بمعنى تكذب وتخرص. وقرئ أفكا، وفيه وجهان: أن يكون مصدرا نحو كذب ولعب، والإفك مخفف منه كالكذب واللعب من أصلهما. وأن يكون صفة على فعل: أي خلقا أفكا:
أي ذا إفك وباطل، واختلافهم الإفك، تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله أو شفعاء إليه، أو سمى الأصنام أفكا وعملهم لها ونحتهم خلقا للافك. فإن قلت: لم نكر الرزق ثم عرفه؟ قلت: لأنه أراد لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق - فابتغوا عند الله الرزق - كله فإنه هو الرازق وحده لا يرزق غيره (إليه ترجعون) وقرئ بفتح التاء فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه. وإن تكذبونني فلا تضرونني بتكذيبكم، فإن الرسل، قبلي قد كذبتهم أممهم وما ضروهم وإنما ضروا أنفسهم حيث حل بهم ما حل بسبب تكذيب الرسل، وأما الرسول فقد تم أمره حين بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشك وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته، أو وإن كنت مكذبا فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة وسلوة حيث كذبوا، وعلى الرسول أن يبلغ وما عليه أن يصدق ولا يكذب، وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله - فما كان جواب قومه - محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم صلوات الله عليه لقومه، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش بين أول قصة إبراهيم وآخرها.
فإن قلت: إذا كانت من قول إبراهيم فما المراد بالأمم قبله؟ قلت: قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وكفى بقوم نوح أمة في معنى أمم جمة مكذبة، ولقد عاش إدريس ألف سنة في قومه إلى أن رفع إلى السماء وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه وأعقابهم على التكذيب. فإن قلت: فما تصنع بقوله - قل سيروا في الأرض؟ قلت:
هي حكاية كلام الله حكاه إبراهيم عليه السلام لقومه كما يحكى رسولنا صلى الله عليه وسلم كلام الله على هذا المنهاج في أكثر القرآن. فإن قلت: فإذا كانت خطابا لقريش فما وجه توسطها بين طرفي قصة إبراهيم والجملة أو الجملة الاعتراضية لابد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه، ألا تراك لا تقول مكة وزيد أبوه قائم خير بلاد الله؟ قلت:
إيراد قصة إبراهيم ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تكون مسلاة له ومتفرجا بأن أباه إبراهيم خليل الله كان ممنوا بنحو ما منى به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان فاعترض بقوله - وإن تكذبوا - على معنى أنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمدا فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها لان قوله - فقد كذب أمم من قبلكم - لابد من تناوله لامة إبراهيم، وهو كما ترى اعتراض واقع متصل، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله وهدم الشرك وتوهين قواعده وصفة قدرة الله وسلطانه ووضوح حجته وبرهانه. قرئ
(٢٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 196 197 198 199 200 201 202 203 204 205 206 ... » »»