الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ١٦٨
ما كان لنبي أن تكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم
____________________
التعريف وأسارى ويثخن بالتشديد، ومعنى الإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه من قولهم أثخنته الجراحات إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة، وأثخنه المرض إذا أثقله، ومن الثخانة التي هي الغلظ والكثافة: يعنى حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر ثم الأسر بعد ذلك، ومعنى (ما كان) ما صح له وما استقام وكان هذا يوم بدر، فلما كثر المسلمون نزل - فإما منا بعد وإما فداء - وروى " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسبعين أسيرا فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب، فاستشار أبا بكر رضي الله عنه فيهم فقال: قومك وأهلك أستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك. وقال عمر رضي الله عنه : كذبوك وأخرجوك فقد مهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر، وأن الله أغناك عن الفداء، مكن عليا من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان لنسيب له فنضرب أعناقهم، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال - فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم - ومثلك يا عمر مثل نوح قال - رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا - ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق ". وروى " أنه قال لهم: إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم، فقالوا: بل نأخذ الفداء، فاستشهدوا بأحد، وكان فداء الأسارى عشرين أوقية، وفداء العباس أربعين أوقية ". وعن محمد ابن سيرين: كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهما وستة دنانير. وروى " أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال: يا رسول الله أخبرني، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال: أبكى على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه ". وروى أنه قال " لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ " رضي الله عنهما لقوله - كان الإدمان في القتل أحب إلى " (عرض الدنيا) حطامها سمى بذلك لأنه حدث قليل اللبث يريد الفداء (والله يريد الآخرة) يعنى ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل وقرئ يريدون بالياء، وقرأ بعضهم والله يريد الآخرة بجر الآخرة على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على حاله كقوله:
أكل امرئ تحسبين امرأ * ونار توقد بالليل نارا ومعناه: والله يريد عرض الآخرة على التقابل: يعنى ثوابها (والله عزيز) يغلب أولياءه على أعدائه ويتمكنون منهم قتلا وأسرا ويطلق لهم الفداء، ولكنه (حكيم) يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزوا وهم يعجلون (لولا كتاب من الله سبق) لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحد بخطأ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله، وخفى عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم. وقيل كتابه أنه سيحل لهم الفدية التي أخذوها.
(١٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 163 164 165 166 167 168 169 170 171 172 173 ... » »»