الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ١٣١
فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون. ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون. من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون. ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها
____________________
شئنا في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ (فمثله كمثل الكلب) فصفته التي هي مثل في الخسة والضعة كصفة الكلب في أخس أحواله وأذلها، وهي حال دوام اللهث به واتصاله، سواء حمل عليه: أي شد عليه وهيج فطرد، أو ترك غير متعرض له بالحمل عليه، وذلك أن سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا هيج منه وحرك وإلا لم يلهث، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعا، وكان حق الكلام أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعناه منزلته، فوضع قوله فمثله كمثل الكلب موضع حططناه أبلغ حط، لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما الكلب منقطع الفؤاد، يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه. وقيل معناه: إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته فسعى لهث، وإن تركته على حاله لهث. فإن قلت: ما محل الجملة الشرطية؟ قلت: النصب على الحال كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثا في الحالتين. وقيل لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) من اليهود بعد ما قرأوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه، وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به (فاقصص) قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم (لعلهم يتفكرون) فيحذرون مثل عاقبته إذ ساروا نحو سيرته وزاغوا شبه زيغه ويعلمون أنك علمته من جهة الوحي، فيزدادوا إيقانا بك وتزداد الحجة لزوما لهم (ساء مثل القوم) أي مثل القوم أو ساء أصحاب مثل القوم، وقرأ الجحدري ساء مثل القوم (وأنفسهم كانوا يظلمون) إما أن يكون معطوفا على كذبوا فيدخل في حيز الصلة بمعنى: الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم، وإما أن يكون كلاما منقطعا عن الصلة بمعنى: وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، وتقديم المفعول به للاختصاص كأنه قيل: وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدها إلى غيرها (فهو المهتدي) حمل على اللفظ، و (فأولئك هم الخاسرون) حمل على المعنى (كثيرا من الجن والإنس) هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم. وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحق ولا ينظرون بأعينهم إلى خلق الله نظر اعتبار ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر، كأنهم عدموا فهم القلوب وإبصار العيون واستماع الآذان، وجعلهم لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه، وأنه لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار، دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار. ومنه كتاب عمر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد: بلغني أن أهل الشأم اتخذوا لك دلوكا عجن بخمر وإني لأظنكم آل المغيرة ذرء النار
(١٣١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 126 127 128 129 130 131 132 133 134 135 136 ... » »»