الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ١٢٩
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون. وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا
____________________
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: والذين استمسكوا بالكتاب (وإذ نتقنا الجبل فوقهم) قلعناه ورفعناه كقوله - ورفعنا فوقهم الطور - ومنه نتق السقاء إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. والظلة كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب. وقرئ بالطاء من أطل عليه إذا أشرف (وظنوا أنه واقع بهم) وعلموا أنه ساقط عليهم، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها، فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ، وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة. ولما نشر موسى الألواح وفيها كتاب الله لم يبق جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فلذلك لا ترى يهوديا تقرأ عليه التوراة إلا اهتز وأنغض لها رأسه (خذوا ما آتيناكم) على إرادة القول: أي وقلنا خذوا ما آتيناكم، أو قائلين خذوا ما آتيناكم من الكتاب (بقوة) وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه (واذكروا ما فيه) من الأوامر والنواهي ولا تنسوه أو اذكروا ما فيه من التعريض للثواب العظيم فارغبوا فيه، ويجوز أن يراد خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه كقوله - إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا - واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة والإنذار (لعلكم تتقون) ما أنتم عليه. وقرأ ابن مسعود وتذكروا. وقرئ واذكروا بمعنى وتذكروا (من ظهورهم) بدل من بني آدم بدل بعض من الكل ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم: إخراجهم من أصلابهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم، وقوله (ألست بربكم؟
قالوا بلى شهدنا) من باب التمثيل والتخييل، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم، وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وفي كلام العرب، ونظيره قوله تعالى - إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون - فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين - وقوله:
إذ قالت الأنساع للبطن الحق * قالت له ريح الصبا قرقار ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى (أن تقولوا) مفعول له: أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة
(١٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 124 125 126 127 128 129 130 131 132 133 134 ... » »»