الحاشية على الكشاف - الشريف الجرجاني - الصفحة ١٥٦
أن لفظ الختم أستعير من ضرب الخاتم على نحو الأولى هيئة في القلب والسمع مانعة من خلوص الحق إليهما، كما يمنع نقش الختام على تلك الظروف من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها، فتكون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي هو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه وحقه أن يقبله، ثم اشتق من الختم المستعار صيغة الماضي، ففي ختم استعارة تصريحية تبعية، وقوله (من قبل إعراضهم واستكبارهم) إشارة إلى الهيئة الحادثة في القلوب المانعة من أن ينفذ فيها الحق ويخلص إلى ضمائرها، ففيه تنبيه على المشبه وعلى وجه التشبيه، كما أن قوله (لأنها تمجه وتنبو) إيماء إليهما، لإن مج الأسماع للحق ونبوها عن الإصغاء إليه وكراهتها لاستماعه يدل على عدم نفوذه فيها لأجل هيئة حادثة فيها مانعة من النفوذ، ويلزم من التشبيه الذي تتضمنه هذه الاستعارة تشبيه القلوب والأسماع بالأواني لكنه تابع لذلك التشبيه، ولا يمكن أن يقصد ابتداء، فبطل ما توهم من أن القلوب والأسماع استعارة بالكناية والختم تخييل، وكيف لا وسيرد عليك أن رد التبعية في أمثال هذه السور إلى المكنية كما ذهب إليه السكاكي مما لايستحسن أصلا ومن ههنا يعلم أن قوله (فأن تجعل قلوبهم وسماعهم كأنها مستوثق منها بالختم) لا يدل على أن المقصود تشبيه القلوب والأسماع كما يتناول إليه الوهم، بل هو بمنزلة أن يقال تجعل الحال لكونها دالة على كذا كأنها ناطقة به، مع أن المراد تشبيه دلالتها بالنطق لاتشبيهها بالناطق، وأن لفظ الغشاوة أستعير من معناه الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضيه لعدم اجتلائا آيات الله ودلائله فهو استعارة مصرح بها أصلية من محسوس لمعقول، والجامع ما ذكر في تلك التبعية، ودعوى كون الأبصار استعارة مكنى باطلة أيضا لما مر.
ألا ترى أنه حكم بأن الختم والتغشية من باب المجاز، ومحصول ما قرره في التمثيل أن تشبه حال قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع لهيئة الحادثة فيها المانعة من الانتفاع بها في الأغراض الدينية التي خلقت هذه الآلات لأجلها بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع عن ذلك بالختم والتغطية، ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركبا من عدة أمور، والجامع عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع تمكن فيه كالمانع الأصلي، وهو أمر عقلي متنزع من تلك العدة فتكون الاستعارة حينئذ تمثيلية، وليس للإسناد إلى الخاتم والمغشى في هاتين الجملتين الاسمية والفعلية مدخل في هذا القبيل، كما لا مدخل له في أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى. فإن قيل: إذا أستعير اللفظ من حالة مركبة لأخرى مثلها وجب أن يكون ذلك اللفظ مركبا قطعا، إذ لا يراد بالمعنى المركب ههنا ما له أجزاء في نفسه بل ما دل عليه بلفظ مركب، فإن معنى كل واحد من الأسد والجبل والأرض من المعاني المفردة التي تلاحظ ملاحظة واحدة بألفاظ مفردة وإن كانت مشتملة على أجزاء متكثرة، وإذا قصد تلك الأجزاء بألفاظ متعددة متألفة كانت معاني مركبة بلا شبهة، وعلى هذا كيف
(١٥٦)
مفاتيح البحث: المنع (2)، الضرب (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 151 152 153 154 155 156 157 158 159 160 161 ... » »»