ذلك منه سهو اه، ولما فرغ من الامتنان بأمور الدين شرع في الامتنان بأمور الدنيا، وبدأ بما هو أصل فيها ومكمل لمنافعها من الشبع واللبس إذ لا يستغنى عنهما، ومن ثم وصف الجنة بقوله * (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى) * فقال (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته) لأن الخلق ملكه ولا ملك لهم بالحقيقة وخزائن الرزق بيده فمن لا يطعمه بفضله بقي جائعا بعدله، وأما * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * فهو التزام تفضلا لا وجوبا (فاستطعموني) اطلبوا مني الطعام لأنه في يده تعالى وما في يد العبد ليس بحوله وقوته فلا يد له بالحقيقة بل اليد لرب الخليقة (أطعمكم) أيسر لكم أسباب تحصيله * (إن الله هو الرزاق) * وهذا تأديب للفقراء، فكأنه قال: لا تطلبوا الطعمة من غيري فإن الذين استطعمتموهم أنا الذي أطعمهم.
قال الطيبي: إن قلت ما معنى الاستثناء في قوله إلا من أطعمته، وإلا من كسوته، وليس أحد من الناس محروما عنهما؟ قلت لما كان الإطعام والكسوة معبرين عن النفع التام والبسط في الرزق وعدمهما عن التقتير والتضييق كما قال تعالى * (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * سهل التقصي عن الجواب فظهر منه أنه ليس المراد من إثبات الجوع والعري في المستثنى منه نفي الشبع والكسوة بالكلية، وليس في المستثنى إثبات الشبع والكسوة مطلقا بل المراد بسطهما وتكثيرهما (يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم) واسألوا الله من فضله فإنه لا حول ولا قوة إلا به ولا استمساك إلا بسببه، قال عيسى: ابن آدم أنت أسوأ بربك ظنا حين كنت أكمل عقلا لأنك تركت الحرص حين كنت جنينا محمولا ورضيعا مكفولا ثم أدرعته عاقلا قد أصبت رشدك وبلغت أشدك (يا عبادي إنكم تخطئون) بضم أوله وكسر ثالثه أي تفعلون الخطيئة عمدا وبفتح أوله وثالثه من خطأ يخطئ إذا فعل عن قصد (بالليل والنهار) هذا من قبيل المقابلة لاستحالة وقوع الخطأ من كل منهم ليلا ونهارا (وأنا أغفر الذنوب جميعا) غير الشرك وما لا يشاء مغفرته * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * وأكد بأل الاستغراقية وجميعا المفيد كل منهما للعموم ليقوى الرجاء ولا يقنط أحد (فاستغفروني أغفر لكم) * (وإني لغفار لمن تاب) * ووطأ بعد الفاء بما قبلها إيذانا بأن غير المعصوم لا ينفك غالبا عن المعصية وفي هذه الجمل توبيخ يستحي منه كل مؤمن لأنه إذا لمح أنه خلق الليل ليطاع فيه سرا استحياء أن ينفق أوقاته في ذلك إلا فيه كما أنه استحى بطبعه من صرف شئ من النهار حيث يراه الخلق للمعصية (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) بحذف نون الإعراب جوابا عن النفي أي لن تبلغوا لعجزكم إلى مضرتي ولا يستقيم ولا يصح أن تضروني حتى أتضرر منكم (ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) أي لا يتعلق بي ضرر ولا نفع فتضروني أو تنفعوني لأنه تعالى غني مطلق والعبد فقير مطلق والفقير المطلق لا يملك للغني المطلق ضرا