فيض القدير شرح الجامع الصغير - المناوي - ج ٢ - الصفحة ٨٣
وقد أمر الله بالتوسط في الأمور فقال * (لم يسرفوا ولم يقتروا) * [الفرقان: 67] (ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به) أي لا تجعلوه سببا للإكثار من الدنيا، ومن الآداب المأمور بها: القصد في الأمور وكلا في طرفي قصد الأمور ذميم. وقال الطيبي: يريد لا تجفوا عنه بأن تتركوا قراءته وتشتغلوا بتأويله وتفسيره. ولا تغلوا فيه بأن تبذلوا جهدكم في قراءته وتجويده من غير تفكر كما قال في الحديث الآخر لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث (حم ع طب) عن (عبد الرحمن بن شبل) بكسر المعجمة وسكون الموحدة ابن عمرو بن يزيد الأنصاري أحد النقباء فقيه حمصي، قال الهيثمي رجال أحمد ثقات. وقال ابن حجر في الفتح سنده قوي.
1339 - (اقرأوا القرآن بلحون العرب) أي تطريبها (وأصواتها) أي ترنماتها الحسنة التي لا يختل معها شئ من الحروف عن مخرجه لأن القرآن لما اشتمل عليه من حسن النظم والتأليف والأسلوب البليغ اللطيف يورث نشاطا للقارئ لكنه إذا قرئ بالألحان التي تخرجه عن وضعه تضاعف فيه النشاط وزاد به الانبساط وحنت إليه القلوب القاسية وكشف عن البصائر غشاوة الغاشية (وإياكم ولحون أهل الكتابين) أي احذروا لحون اليهود والنصارى (وأهل الفسق) من المسلمين يخرجون القرآن عن موضعه بالتمطيط بحيث يزاد حرف أو ينقص حرف فإنه حرام إجماعا كما ذكره النووي في التبيان بدليل قوله (فإنه) أي الشأن (سيجئ بعدي قومي يرجعون) بالتشديد. أي يرددون (بالقرآن) ومنه ترجيع الأذان وهو تفاوت ضروب الحركات في الصوت وهو المراد بقوله (ترجيع الغناء) أي أهل الغناء (والرهبانية) يعني رهبانية النصارى (والنوح) أي أهل النوح (لا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة وهي الغلصمة وهي مجرى النفس (مفتونة قلوبهم) بنحو محبة الشبان والنساء (وقلوب من يعجبه شأنهم) فإن من أعجبه شأنهم فمآل مصيره منهم. وفي البخاري أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قرأ في يوم الفتح - فتح مكة - سورة الفتح فرجع فيها. وقال العارف المرسي: دخل بعض الصحب على اليهود فسمعهم يقرأون التوراة فتخشعوا - أي بعض الصحب - فأنزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم * (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) * [العنكبوت: 51] فعوتبوا إذ تخشعوا من غيره وهم إنما تخشعوا من التوراة وهي كلام الله! فما الظن بمن أعرض عن كتابه وتخشع بالملاهي والغناء؟. اه‍. وعلم مما تقرر انه لا تلازم بين التلحين المذموم وتحسين الصوت المطلوب وأن التلحين المذموم والأنغام المنهي عنها هو إخراج الحروف عما يجوز له في الأداء كما يصرح به كلام جمهور الأئمة ومنهم الإمام أحمد، فإنه سئل عنه في القرآن فمنعه فقيل له لم؟ فقال ما اسمك؟ قال محمد، قال أيعجبك أن يقال لك يا محآمد؟ تنبيه: قال ابن عربي: من لم يطربه سماع القرآن بغير ألحان فليس على شئ، وقد كان أولئك الرجال لا يقولون بالسماع المقيد بالنغمات لعلو هممهم ويقولون بالسماع المطلق فإنه لا يؤثر فيهم إلا فهم المعاني وهو السماع الروحاني الإلهي وهو سماع الأكابر، والسماع المقيد إنما يؤثر في أصحاب النغم وهو السماع
(٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 ... » »»