فيض القدير شرح الجامع الصغير - المناوي - ج ٢ - الصفحة ٨٨
من نفسه في غير تلك الحالة (فأكثروا الدعاء) أي في السجود لأنها حالة غاية التذلل، وإذا عرف العبد نفسه بالذلة والافتقار عرف أن ربه هو العلي الكبير المتكبر الجبار، فالسجود لذلك مظنة الإجابة، ومن ثم حث على الدعاء فيه بقوله فأكثروا إلخ. وفي تعميم الدعاء وعدم تخصيصه بنوع ولا غيره رد على من منعه في المكتوبة بغير قرآن كطاووس، وجاء في رواية بدل قوله فأكثروا الدعاء واجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم، وقمن بفتح القاف والميم وقد تكسر معناه حقيق، والأمر بالإكثار من الدعاء في السجود ويشمل الحث على تكثير الطلب لكل حاجة كما جاء في خبر الترمذي: ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله (تنبيه) قال ابن عربي: لما جعل الله الأرض لنا ذلولا نمشي في مناكبها فهي تحت أقدامنا تطؤها بها وذلك غاية الذلة فأمرنا أن نضع عليها أشرف ما عندنا وهو الوجه وأن نمرغه عليها جبرا لانكسارها بوضع الذليل عليها الذي هو العبد فاجتمع بالسجود وجه العبد ووجه الأرض فانجبر كسرها وقد قال الله تعالى: (أنا عند المنكسرة قلوبهم) فلذلك كان العبد في تلك الحالة أقرب إلى الله تعالى من سائر أحوال الصلاة لأنه سعى في حق الغير لا في حق نفسه وهو جبر انكسار الأرض من ذلتها (م د ن عن أبي هريرة) ولم يخرجه البخاري.
1349 - (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر) قال الطيبي: يحتمل أن يكون قوله في جوف الليل حالا من الرب أي قائلا في جوف الليل من يدعوني فأستجب له سدت مسد الخير، أو من العبد، أي قائما في جوف الليل داعيا مستغفرا على نحو قولك ضربي زيدا قائما، ويحتمل أن يكون خبرا لأقرب، وقوله الآخر: صفة لجوف على أن ينصف الليل ويجعل لكل نصف جوف والقرب يحصل في جوف النصف الثاني، فابتداؤه يكون من الثلث الأخير اه‍ وقال هنا أقرب ما يكون الرب من العبد، وفيما قبله أقرب ما يكون العبد من ربه: لأن قرب رحمة الله من المحسنين سابق على إحسانهم فإذا سجدوا قربوا من ربهم بإحسانهم (فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله) ينخرط في زمرة الذاكرين لله ويكون له مساهمة معهم (في تلك الساعة فكن) وهذا أبلغ مما لو قيل إن استطعت أن تكون ذاكرا فكن إذ الأولى فيها صيغة عموم شاملة للأنبياء والأولياء فيكون داخلا فيهم (تنبيه) قال حجة الإسلام في الجواهر عمدة الطريق الملازمة والمخالفة، فالملازمة لذكر الله والمخالفة لما يشغل عنه وهذا هو السفر إلى الله وليس في هذا السفر حركة من جانب المسافر ولا المسافر إليه ولا هما معا، أما سمعت * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * [ق: 116] بل الطالب والمطلوب كصورة حاضرة مع مرآة لكن لا تنجلي على المرآة لصدأ في وجهها، فمتى صقلت تجلت فيها الصورة لا بارتحال الصورة إلى المرآة ولا بحركة المرآة إلى الصورة بل بزوال الحجاب، فالله سبحانه متجل بذاته لا يخفى إذ يستحيل اختفاء النور وبالنور يظهر كل خفي * (الله نور السماوات والأرض) * [النور: 35] وإنما خفي النور على الحدقة لكدورة في الحدقة أو لضعف فيها لا تطيق احتمال النور العظيم الباهر كما لا تطيق نور الشمس أبصار الخفافيش فما عليك إلا أن تشفي عن قلبك كدورته وتقوي حدقته فإذا هو فيها كالصورة في المرآة
(٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 ... » »»